إذا كثر الطباخون احترق اللحم، أو فسدت الطبخة، قاعدة مجرّبة في الحياة، ولذلك شاع هذا المثل لكثرة ا لإحتياج إليه في ترشيد الناس وتنبيههم إلى أن العمل الواحد يحتاج إلى المنهج الواحد، وهذا ما قلته لابنتنا تحت التدريب الممرضة (مي)، فهي تأتي مع زميلات لها من معهد الفريق للتدريب في مدينة الشيخ خليفة الطبية قبل أن يصبحن ممرضات رسميات عقب إنهاء سنوات الدراسة الثلاث والحصول على الدبلوم، ولذلك تلاحظ عليهن حماس الطالبات التقليدي للإستزادة من المعرفة التطبيقية واكتساب المهارات اليدوية مثل معالجة الجروح وإعطاء الحقن وأخذ القياسات وتسجيلها، إضافة إلى توعية المرضى بحالاتهم وما ينغي لهم عمله والإلتزام به بعد مغادرة المستشفى من انتظام في تناول الدواء ومن مأكل ومشرب وراحة يتناسب وحالاتهم المرضية. وقد كان من نصيبي أمس الأول (مكلمة) – من الكلام – هائلة، كانت موجهة إلى جاري الهندي، ولم تكن الطالبات الثلاث على رأي واحد في بعض النصائح، وخاصة ما يتعلق بأنوا الأكل وطرق الطهي، حيث لحوّاء باع وذراع وما علمن بحكم شيوع ثقافة الغذاء الغربية أن العرب يقولون “داوي الأجساد بما تعتاد”، فالهندي العامل اشحيح الدخل سيعود إلى (الصانونة) التي تسبح في الزيت المعاد غليه، وسيبحث عن الفلفل الحار الذي يحرّك أمعائه وإلا هلك، فهو لم يستطع لأيام عديدة دخول بيت الراحلة بسبب انعدام الفلفل الحار من طعام المستشفى، وما أفاد فيه أي دواء، لأن شفرة جسده لا تفتح إلا بنفح الفلفل الحراق ثم نصحنه بأن يتصل بأهله وأولاده كلما شعر بالإكتئاب، فقال إنه مكتئب على طول الخط، ولو استخدم التلفون لما بقي من راتبه شيء، ثم نصحنه بممارسة الرياضة لوزن تحسين القلب فقال أنه يكوي ملابس الناس بالبخار اثنتي عشرة ساعة يومياً، يستخدم فيها يديه ورجليه ويحرّك جسده فما عظم ما تكون الرياضة… “ثم” أن لغة الهندي العربية على “قد الحال” يفهم كلمة وتفوت خمس، وبنات المعهد بلابل ما شاء الله، يعني “بنات عرب” من المهد إلى اللحد، يتذكرن أحياناً أن المستمع من غيرة أمة فتقدم إحداهن بالترجمة إلى لغة الآردو-عرب، المهم أنني وجدت نفسي أتثقف من وراء حجاب، حتى “فاض بي” على رأي الست أم كلثوم فقلت لـ (مي) التي صمتدت بعد انسحاب زميلاتها: “خففي الوطء، ما أظن هذا المسكين إلا من لحم ودم مثلنا، وقد مضى على صينية الغداء ساعة وأكثر فدعيه يأكل في الميقات، فذلك من ضمن الأصول التي تلقّنينها له “الأكل والدواء في مواقيته”، ضحكت هذه الفتاة الطيبة وهي تقول: “يا عم فضل، بلاش تقرّ علينا، إن ساعة المنى هي تلك التي نرى فيها المريض وقد علت السعادة ملامح وجهه، ثم لا تنسى أننا تحت التدريب، وكل عمل متقن نأخذ عليه درجات أفضل، ونكسب ثقة في النفس أعلى، وحين تثق الممرضة المشرفة (المعلمة) بنا فذلك معناه أننا نوشك أن نصبح من أهل (الكار)، ومع تمنياتي لك بالشفاء وعدم العودة إلى المستشفى، إلا أنك إذا عدت لأي سبب بعد عمر مديد إن شاء الله ستجدنا هنا وعند حسن ظنك، يعني البنت أكلت بعقلي حلاوة وأنا الأسير في سريري الأبيض، مما ذكرني بقول الشاعر الجاهلي اليماني مع شيء من التحريف:
وتضحك مني طفلة عبشميةٌ = كأن لم تر قبلي أسيراً يمانيا
لاحظت في المستشفى كثرة استخدام الأوراق والأقلام لتسجيل وقائع المرض والأمراض، وكنت أظن أن التسجيل اليدوي قد انقرض لصالح الكمبيوتر، فيما يعرف بالحكومات الإلكترونية، ولكن الأمر ليس بالسهولة، لأن التحول لا يتم بضغط على زرار “كن فيكون”، وقد سألت وأنا أراقب خلايا النحل في كاونترات الممرضات منكبة على الكتابة “كأنما طرق نمل في أناملها”، على حد قول يزيد بن معاوية، فقيل لي أن ما تنجزه الآلات يذهب إلى الكمبيوتر، أما ما ينجزه البشر فإلى الورق، وهناك جسر بين الاثنين أطول من جسر السعودية-البحرين.