كلام الحجر- علي الحضرمي

والشاعر الفذ بين الناس رحمان، كما يقول العقاد في تجلية شعرية أفلتت من منطقه الصارم ولغته المقدودة من صخر:

والشعر من نفس الرحمن مقتبس

والشاعر الفذ بين الناس رحمان

شاعرنا “علي الحضرمي” ليس ممن يطلب نعجة أخيه ولديه تسعة وتسعين وإنما هو يبحث عمن يشاركه فرحة القليل، لكأنه من حواريي “الشنفري”

أقسم جسمي في جسوم كثيرة

وأحسو قراح الماء والماء بارد

شعر الحضرمي مليء بالضوء، ضوء متدرج متماوج في حنان نقش النساء وإيحاءاته الأنثوية، في نفح الرياحين وضوئها العطر، في هوى البيوت الدافئ المستكن المليء بالأسرار، التي لا تنطق بها الجدران إلاَّ رمزاً وفي فضة الصبح حين ينسكب من آنية الليل الغامضة، ليصل الى شباك المساء المضرجة بلهيب المغيب وخدره، شعر الحضرمي مليء بالحركة والأخذ والعطاء، وبقدر ما يتكلم يصغي، وما كان للشعر أن يبلغ حافات الهوى وتبج الأنهار دون ضوء ولا حركة بتدفقات من أعماق الروح، لا من أطراف الأصابع واللسان. من هنا سماجة الكثير من الأشعار التي تفتقد هاتين الخاصتين اللتين لا يتقصدهما الشاعر وإنما تأتيان عن الخاطر محمولتين على مكتسب الثقافة ومكانة اللغة ورهافة الممارسة ونبل الإحساس الإنساني “أنتم الناس أيها الشعراء” ويبدو كما لو أن الشاعر يكافئ نفسه بشعره «ويسهر الخلق جراها ويختصموا» «الهوى توسل» الى الشعر وليس الشعر توسلاً الى الهوى، حتى المعشوقة تدرك بحدس ملهم انها تأتي بعد القصيدة «وأنا صنعتك من هواي ومن جنوني» الحضرمي علي، يصطاد في مهب الظنون فمتى جاء اليقين فلا شعر، أفيسأل سائل بعد ذلك: كيف يموت الهوى؟ غزالات الشعر مراعيها دائمة الخضرة، وأمطارها واكفة، والعشق قوتها وياقوتها “ليهنك اليوم إن القلب مرعاك”:

“سوف أصطاد نقش النساء كي أرد الى كل ريحانة ضوءها، وإلى كل بيت هواه، او لأسمع ما سوف اسمعه حين أنكر في كل يوم إله، ثم اصطاد نقش النساء كي أرى فضة الصبح واقعة في شباك المساء”.

«سوف» و “ثم” أمنية لغير متمني، لأن فعل الشعر الدائري لا يبدأ من فراغ، ولا ينتهي الى فراغ، وما الموسيقى الصاخبة في هذا النص الهادئ، سوى اعتياد الاجتياز المتواتر على درب موحش تمت أنسنته بذهب الكلمات، فهو اليوم أقرب الى الحديقة الخلفية لمنزل عامر بالبهجة ولديه من الفائض ما يصدره لكل منازل الحارة، أملاً في أن تقوم هي بدورها في استئناس المدنية المتخصصة في وأد نقش النساء، واطفاء أغاني الفجر، وربط سيقان الغزلان الى أوتاد العربان:

“سوف أختار من زركشات البيوت ما يهذب ليل الفجر، حين يطفوا على ريش أيامنا ويضيء كلام الحجر، حين يهذي بأضغاث أحلامنا ثم اختار من زركشات البيوت، ما يعلمنا كيف نصغي الى الروح في جسد مات من ألف عام، وفي قلبه شجن لا يموت”.

زركشات البيوت هي ما تبقى لنا لأنها استعصت على تخلفنا، والفجر هم البراءة التي تضيء كلام الحجر، لأنهم لم يستبدوا لغة الروح، أما الشجن الذي لا يموت فهو أملنا في مقبرة الأحياء، وعلينا أن نعثر عليه في الصبوة والجنون.

“سوف أطلق تاج الغزالة من قيد صبوته، كي تنام الغزالة آمنة في مهب الظنون، أو ترى نفسها في مرايا السحابة زاهية ومهيئة للجنون، ثم أطلق تاج الغزالة من قيد صبوته كي يرى حارس البحر أن الغزالة قد تدخل البحر من باب أخوته..”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s