سوالف..!!

السالفة هي ما سلف ، أي ما مضى وانقضى كحدث وأصبح خبرا يروى ومنهاجا ، التعبير الشائع في العربية في الإشادة بالملوك والرؤساء ، فيقال ، خير خلف لخير سلف ، فالأسلاف هم الآباء والأجداد ، ومن شاهد فيلم الأسد الملك الكرتوني الذي يجسد صراع البشرية على القيادة والاستئثار بموارد العيش الرغيد وذلك على ألسنة الحيوانات بما يذكرنا بكتاب (كليلة ودمنة) الذي عرفته العربية في بواكيرها الحضارية حين نقله عبدالله بن المقفع عن الفارسية المنقول إليها عن الهند ، وهو سوالف مصنوعة من قوالب الحكمة الذهبية ، أقول من شاهد ذلك الفيلم الذي اجتذب الكبار قبل الصغار يدرك انشغال الناس بماضيهم السالف ومآثر الآباء والأجداد حيث ليكاد الانشغال يصرفهم عما هم فيه وما ينتظرهم في الغد ، فهم عظاميون ينتسبون إلى رمم العظام في القبور أكثر منهم عصاميون يعتصمون بذواتهم وما هم به ممسكون.

سوالف المستشفيات والمرضى كثيرة فهناك متسع من الوقت ومن لم يضق صدرا أوسع للناس عذرا ، فهم في الغالب ينسونك ويحدثونك عما جرى لهم في هذه الدنيا فتصبح أنت الزائر وهم المرضى ، وهذا تبادل لطيف في الأدوار ، حيث تجد نفسك تأخذ بخاطر الزائر وتواسيه حتى لتوشك على البكاء على صدره لولا أنك لا تستطيع النهوض من سريرك لأن قلبك يوجعك ، وما عليش سامحني يا أخي الزائر إذا لم أقم بما يجب لك عليّ، ذلك أن (من رأى مصائب الناس هانت عليه مصيبته) ، وما من قلب إلا وهو مصاب ، على الأقل بسهام الأعين النجل، وبعضها قَتّاْل قَتّاْل يا ولدي:

لا تُخّفِ ما فعلت بك الأشواق

واشرح هواك فكلنا عشاق

أمس وصل على بساط الريح قادما من عدن عبر دبي رفيق الأسفار الذي طالما حدثت قرائي عنه وكنت قد أطلقت عليه لقب (زوربا اليماني) لما حباه الله به من حب المغامرة ولطافة المعشر والاخلاص للصداقة والأصدقاء ، وقد وصل إلى مستشفى الشيخ خليفة في أبوظبي حاملا باقة الازهار الفواحة الثمينة حيث وقف بجانب باب الغرفة وقبل أن يسلم عليّ وضع الباقة على الأرض واختار كاميرا من الثلاث المحمولات كتفا والرابعة المحمولة جنبا وأخذ يصورني ويصور الغرفة ، وهو يقول: كل لحظة تصوير لا يمكن أن تستعاد مرة ثانية ، وبيني وبينكم لدينا مشروع كتاب عن الأسفار نصيبي منه النصوص ونصيبه الصور ، وكان علي الظياني قد اتصل بي من اليمن بعد أن نمى إلى علمه أنني مريض وأزمع السفر إلى ألمانيا لإكمال العلاج فقال لي ، (رفيقك ولن اتركك كما لن اكلفك فلسا واحدا في ما يخص مصاريفي ولو بعت سيارتي ، قلت له شرّف والجيب واحد، وربما مددت يدي أنا إلى جيبك لأغني لتقودك ما غناه عبدالحليم حافظ.

ما علينا استشاري القلب .. د. خوري اقتحم الغرفة كفرسان القرون الوسطى ، حليق الرأس فارع الطول ، وقد ظننته الجراح الألماني ، الذي انتظره منذ ثمانية أيام ولكنه خيب ظني عندما نطق بعربية لا مراء فيها ، قال لي: وماذا تريد من الألماني قلت لا شيء (الطلة) كما تقولون في لبنان، تبسم واتضح أنه خفيف الظل وابن نكتة ، وهذا من مقومات ، (الاستشارية) ، وفي أهمية الاستاذية فما حاجة المريض إلى طبيب عبوس قمطرير ، وجهه ينشف العجين ، قلت له يادكتور أريد أن تساعدني في الحصول على التقرير فقد قالوا أنه يحتاج إلى خمسة أيام لكي يطبع ويمهر ويختم ويقيد رعى الله (زمانات) أيام كنا نستلمه على الواقف وظننا أن الكمبيوتر سيكون أسرع من الذي عنده علم من الكتاب والذي أتى بعرش بلقيس لسليمان قبل أن يرتد إليه طرفه، ولكن: ما كل ما يتمنى المرء يدركه ، وقال (لشو بدك ياه .. ما إلوطعمة .. أنت عندك تقرير القسطرة الذي يصدر فوريا ، ولن تحتاج إلى أكثر منه) جعلني أكاد أرقص طربا ، رجل يتحدث كالسيف و(إلو طعمة) أما الألمان فأنا في طريقي إليهم بالجملة بدلا من المفرق.

أبدلني الله بجاري الانجليزي أبو فوطة الذي (فلسع) دون وداع بجار هندي في الغرفة ، عامل مصبغة تنظيف شاب ، خسرت أشياء نسيتها وكسبت أشياء لن أنساها ، هذا التواضع الجم الذي لا زائر له ، قسمت باقات الزهور بيني وبينه ، وقد سألني : بابا أنته شكلك أرباب ، ليش ما في غرفته ما في نفرات ثاني ، قلت له: أنا ما بريد ، وهنا كلام (هشتي) يعني لا أساس له:

ولو أني حبيت الخلد فردا

لما أحسست في الخلد انفرادا

 

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s