تاج الصّحة. .

في المستشفى يذكّرونك من دون أن يحفّظوك كطلبة الكتاتيب: “بأنك تأكل لكي تعيش ولست تعيش لكي تأكل”، لأنه حتى البهائم لا تعتمد هذا النهج الرديء الذي ينتهجه بعض البشر، فلا همّ لهم سوى الأكل والشرب: “حسب ابن آدم لقيمات يُقمن صُلبه” و “نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع”، أي لا نُتخم معدتنا حتى تفيض “فإن كان ولا بد فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه”. ومسألة نداء الجوع هي تفاعل كيماوي عصبي تُسكته حبّة تمر بعد أن تصل إلى الدم، حيث لا يستغرق الأمر سوى بضع دقائق، ثم ما قيمة إشباع الشّهوة إلى ما لذّ وطاب – كما نقول – أمام متاعب السّمنة ومنغّصات البِطْنة، وما أزاح العلم الغطاء عنه من مضار الدهون والشحوم ومختلف أنواع السموم، حيث الشيء “إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه”، فإذا أضفت إلى ذلك طبيعة الحياة الحديثة بالنسبة لأعداد متزايدة من الناس لا يحرقون ما يأكلون، فصدّق بعد ذلك قول العلماء بأن نواتج الإفراط في الطعام هي قنبلة موقوته تهدد الجنس البشري، وتهدّد الإقتصاد العالمي، وتعمل كأرضٍ ممهدة لاستقبال مختلف أنواع الأمراض، إنها بمثابة البيئة الحاضنة للبكتيريا المهلكة في المدن. وقد شاهدت فيلماً تسجيلياً أمريكياً وأنا على سريري – ولم يكن عن الطعام – وإنما عن ازدحام المدن، فلاحظت أن 90% من المارة قد تجاوزوا حدّ الاعتدال وزناً وحجماً، فهم يزدحمون كقطعان الأبقار الهولندية المسمّنة خصّيصاً لإنتاج الحليب ومشتقاته، ويبدون أن هذا ما حفّز صناعة (الموضة) في الإتجاه المضاد، لأن الرشاقة أصبحت الاستثناء في المجتمعات المرفّهة، بينما (الإستبقار) هو القاعدة. وتبدو بشاعة النّزوع الإستهلاكي الغذائي في ضوء وجود ما يزيد على نصف مليار جائع في العالم لا يجدون ما يقيم أودهم، حتى أن الأقفاص الصّدرية البارزة العظام لأطفال ونساء ورجال المجاعات الأفريقية جنوب الصحراء تقضّ مضاجع ذوي الضمائر الحيّة. إن حروب الغذاء والمياه ومصادر الحياة الضرورية ستروّع الإنسانية بأكثر مما هي مروّعة، ما لم يتولّ زمام الأمور زعماء إنسانيون على شاكلة نلسون مانديلان والشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان “رحمه الله تعالى”، وعلماء من أمثال البنجلاديشي محمد يونس صاحب بنك الفقراء والحائز على جائزة نوبل، وما لم تتم العودة إلى الأخوّة الإنسانية التي تنادي بها الأديان السماوية الحقة وكبار المصلحين الذين عرفتهم الإنسانية منذ فجر التاريخ، والذين أقرّوا شراكة الإنسانية في الماء والطعام والهواء، لكي تواصل مسيرتها الحضارية رقيّاً، لا لكي يستأثر بعضها دون بعض بهبات الله للعالمين، فتمتلئ الأرض جوراً وفساداً. قال أبقراط: “الإقلال من الضار خيرٌ من الإكثار من النافع، وعليكم استدامة الصحة بترك التّكاسل عن التّعب، وبترك الإمتلاء من الطعام والشراب”. وقيل لجالينوس – وكلاهما من أشهر أطباء اليونان الذين حفظ العرب حكمتهم-: “مالك لا تمرض؟”، فقال: “لأني لم أجمع بين طعامين رديئين، ولم أُدخل طعاماً على طعام، ولم أحبس في المعدة طعاماً تأذيت منه”.

في المستشفى يعيدونك إلى أمّنا الطبيعة وشركائنا من الكائنات التي تنام مع الغروب وتفطر مع الشروق، فتجعل الليل لباساً والنهار معاشاً، وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى تكتشف عظمة نظام الطبيعة بين شروق وغروب وحركة وسكون. ربما كان المرض نعمة، بل ومن أعظم النعم، لأنه يعيدك إلى نفسك الصافية ونظامها المُهمل، بعد أن فررت منهما طويلاً وبعيداً، وساعتها ستردد مع الحكماء: “الصحّة تاجٌ على رؤوس الأصحاء لا يراه إلاّ المرضى”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s