معدنٌ لا يصدأ

البطولة تتأبى على الدناءة لأنها من معدن نفيس لا يصدأ حتى وأن تشاكل الأمر واختلط لبعض الوقت حين يلبس القتلة أردية الشهداء ويدعون لأنفسهم ما لم يكن في نواياهم من مبادئ ومثل، ومن مكر التاريخ أنه ينسي الأدعياء ما ادعوه، فتراهم ومن خلفهم يذعنون للوقائع ويمرون بها مرور غير الكرام، فيصمتون أمام منطقها المبين، أو يهربون إلى العتمة حيث لا يَرَون ولا يُرَون أما أولئك الذين افتدوا بحيواتهم ودمائهم الآخرين، فسرعان ما يستعيدون بهاءهم وانتصارهم الأزلي حتى وإن لحقت بهم الهزيمة في هذه الحياة الدنيا بمقاييسها التي لا يبتعد نظرها كثيراً عن أرنبة أنفها.

من يتذكر الآن الديكتاتور الإسباني الجنرال فرانكو، الذي هزم الجمهوريين في الحرب الأهلية التي دارت بين 1936م – 1939م كأنما كانت «بروفة» للحرب العالمية الثانية التي تلتها، فقد شارك فيها أنصار الحرية من كل مكان إلى جانب الجمهوريين، كما شارك أنصار الديكتاتورية والحكم الشمولي كذلك وفي مقدمتهم ألمانيا هتلر، وقضى في تلك الحرب قتلاً شاعر أسبانيا الكبير الأندلسي «لوركا» الذي غدا معزوفة شجية على شفاه العالم منذ قضى نحبه غيلة، كما هو حال «جيفارا» ذلك البطل الرومانسي الشاعري الجسور الذي خطف قلوب شباب العالم، ولنا فيما يلي ما يروى حول البطولة والنذالة من وحي هذين النموذجين:

في أسبانيا اضطرت اللجنة الخاصة بإعداد قانون «الذاكرة التاريخية» إلى تغيير بعض نصوصها بسبب نصب «وادي الشهداء» القريب من العاصمة الإسبانية مدريد الذي بناه الجنرال فرانكو وكان يعتز به اعتزازاً كبيراً حتى أنه أوصى أن يدفن هناك، وتم تنفيذ وصيته ولا يزال قبره هناك.

أما لماذا، فلأن البرلمان الإسباني يناقش إزالة كل رموز الجنرال فرانكو، لمحو تلك المرحلة الكئيبة من التاريخ الإسباني، ولأنه كعادة الدكتاتوريين حاول في حياته أن يكون بارزاً في كل مكان ظناً منه أن التاريخ لا يراقبه ويترصده، ولكن المشكلة كانت مع وادي شهداء الجنرال لا شهداء الوطن، فالنصب حسب اللجنة تحفة فنية رائعة، وهو عبارة عن صليب هائل أقيم على مرتفع صخري وخلفه كنيسة كبيرة في غابة من شجر الصنوبر، ويبلغ ارتفاع الصليب 150 متراً، فإذا أضيف إليه ارتفاع الصخور التي يقع عليها وصل إلى 300 متر وقد استمر العمل فيه من عام 1940م حتى عام 1958م، ويقال أن السجناء من الجمهوريين سخروا للعمل في ذلك النصب، ومن هذه الزاوية يمكن النظر إليه على غير ما قدر الجنرال، وكان الحل الوسط الذي تقدم به حزب «التقارب والوحدة» اعتبار وادي الشهداء مكاناً بعيداً عن الاعتبارات السياسية وتحويله إلى رمز لكل الذين سقطوا في الحرب الأهلية.

وهكذا فإن التاريخ أيضاً يقبل بالحلول الوسط حتى لا يدمر كلُّ خلفٍ سلفه وإذا ما تأسبن – من أسبانيا – العالم في التسامح المحسوب فستجد الكثير من الأمور حلولها ضمن البلد الواحد والشعب الواحد وإن تعددت مذاهبه، فللناس فيما يعشقون مذاهب.

أما جيفارا المنذور للإنسانية، وليس لشعب من الشعوب فقد جرى أمس عرض خصلات من شعره في مزاد علني بولاية تكساس الأمريكية حيث يأمل عميل سابق لوكالة المخابرات المركزية في جمع ثروة من وراء نذالته في قص شعر بطل مغدور قال لقاتله المرتجف في لحظة الذروة: مابك؟ أطلق النار إنك تقتل رجلاً «ومع ذلك وفي لفتة إنسانية نادرة فإن الأطباء الكوبيين قد أجروا لهذا الجندي الذي اعتقل قبل عقود عملية لإزالة ماء من عينيه أخيراً»..

على كل حال هذه ليست صورة غريبة عن وحشية الرأسمالية وخدمها الصغار، ولا نملك إلا أن نقول ما قالته أسماء لابن الزبير: هل يضير الشاة سلخ جلدها بعد ذبحها وتعليقها؟.. لا نامت أعين الجبناء.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s