اخشى ان اكون قد أمللت القارئ بكتابتي عن الملف الشعري اليمني الذي صدر ضمن كتاب في جريدة عدد أغسطس الماضي ونسق باقته استاذنا الدكتور عبدالعزيز المقالح والذي قرأت له مقالاً غاضباً، علماً انه واسع الحلم شديد الاناة وافر العبر، وقلما يغضب على الملأ، واما في داخله فبراكين متفجرة، وكان عضبه من الذين لا يعملون ولا يريدون الآخرين أن ينهضوا بالعمل المطلوب،
فاذا فعلوا ما يتطلبه الواجب وتقتضيه المعرفة التي هي امانة في اعناق العلماء، قاموا عليهم يرمونهم بحجارة النكران، وسقيم القول، وفي رأيي الزام هؤلاء اقيامهم الحقيقية بالصمت المزدري:
اذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من اجابته السكوت
ومعذرة استاذنا فالاشجار الشامخة المثمرة وحدها ترى.. الراحل العزيز محمد حسين هيثم كان حاضراً بين مجايليه ابهى ما يكون الحضور في هذا الاصدار وسيظل مجايلاً لشعراء لم يلدوا بعد والى ما شاء الله، لانه شاعر حقيقي استصلح ارضاً بوراً لم يستصلحها احد غيره، واستولدها جنات وعروشا، ثم ختمها بختمه البديع بعد ان اسرح فيها الايائل والغز لان ورنات الخلاخيل، وقال للحياة: تدفقي، ثم مضى الى عالم آخر وهو يبتسم وكانت القصيدة المختارة «على بعد ذئب» «مانفيستو» لبيان كهرباء الشعر الذي نستمتع بقطوفه دون ان نعرف كيمياءه، فمامن احدٍ من العلماء حتى اللحظة يمكنه تفسير عملية انتقال الكهرباء في الاسلاك، فكيف بالشعر وهو كهرباء الروح يسري عبر عوالم اللغة والعواطف والاعصاب وكيمياء الجمال التي توزع الاضواء والظلال والسكون والهمس ونبض القلوب العاشقة وبراكين النفوس الثائرة.
«كلنا عابر في القصيدة لكننا لا نقيم بها، ونقيم القيامات فيها، نشاور احجارها، او نساير اشجارها او نحاورها، او نسير حفاة على الجمر بين الكتابات نهمس ان كمائن اعشابها قطرة من مجاز، وان السياسة بيت القصيد».
كلنا عابر بين المهد واللحد، بين العشق والعشق، بين التشظي العظيم والتشظي الاعظم، نقيم في اللااقامة واللامقام، وقياماتنا لا تنتهي، بعضها نشهدها، وبعضها تشهدنا، وفي زحف الجموع الانسانية من الاصلاب الى الالحاد وحده الشعر يتوقف لينظر الى الخلف، او يتسلق الاكتاف يرى ابعد الى الامام، انه الحادي، وبدون الحذة ستختفي اقمار الصحراء وتسيخ قوائم الابل، ويصبح الموت كئيبا يتخبط على غير هدى، وهذا هو الفرق ايضاً بين «بيت القصيد» السياسة وبين مجاز الشعر المسلَّط كيف «ديموقليس» معنوياً لا واقعياً: «كلنا عابر في البياض، نؤلف مجداً، ونطفح موتاً، وندعوا القصيدة ان تحتفي بالبعيد، كلنا عابر في القصيدة، نسأل عن قربنا من مشانق مجدولة من حبال السياسة او من خيوط الوعيد، كلنا عابر قربهم، فالغزاة هنا، كلهم داخل، والبداوة فينا، فمن جمرتين نقيم الممالك مملكة اثر اخرى، وننثرها في حقول البروق قلاعاً، وترضع من ذئبةٍ ثم نهوي الى قصعة من ثريد» اتذكر البردوني المرائي في عالم العميان «غزاة لا اشاهدهم, وسيف الغدر في صدري».. «نؤلف مجداً، ونطفح موتاً» يالها من معادلة دامية شاهدة على ظلم الانسان وغبائه! وهلعه وطمعه وجبنه..
لو لا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والاقدام قتال
«المتنبي»
استحضار قوانين البداوة في عنابيل السياسة كما عند ابن خلدون شاهداً على الثقافة الواسطة المهضومة للراحل محمد حسين هيثم معبراً عنها بفنية عالية: الرضاعة من ذئبة ثم السقوط من حالق الى قصعة من ثريد هي نقطة الصفر «فمن ادراك ان اباك ذئب».