تأسّف رئيس الهيئة العامّة لأركان القوات المسلحة البريطانية الجنرال ريتشارد دانات كون الحرب في العراق (غير شعبية بشكل واضح)، ولكنّه لم يقل لنا كيف تأتي الشعبية للحروب العدوانية المطبوخة في الظلام، حيث الأهداف المعلنة شيء والأهداف الحقيقية شيء اَخر، وينطبق على مثل هذه الحروب الاستعمارية القول الشائع المجرّب وهو إن المخادع قد يستطيع تضليل بعض الناس بعض الوقت، ولكنّه لن يتمكّن من خداع كلّ الناس كلّ الوقت)، وقد ذهب الأميركان وبمعيتهم البريطانيون رغماً عن أنف القانون الدولي وتحدياً لكلّ القيم والأعراف المستقرة إلى حرب العراق على أساس أنها نزهة يُستقبلون فيها بالورود والأحضان ثم يغنمون ما جاءوا من أجله ويعودون إلى ديارهم عقب ترتيب الأوضاع حسب ما يشتهون فيستقبلون مرّة أخرى بالورود والأحضان وبالطبل والزمر والليالي الملاح. لقد تبخر هذا التّصّور الساذج كما تتبخّر قطرات المياه الشحيحة في لهيب صيف البصرة، حيث وجد الجنود أنفسهم في ساحة حرب لا في حقل ورود وقد جرت محاصرتهم وقصفهم من موقع إلى اَخر حتى انتهوا إلى التجمع في مطار البصرة تمهيداً للرحيل إلى لندن بعد أخذ الإذن النهائي من واشنطن. حسناً: ليسمّوا ذلك انتصاراً، فالكلام ليس عليه جمارك، ولكنّ التاريخ هو المخوّل إطلاق التّسميات على الأفعال وتمحيص الأقوال لفرز الذهب عن الإكسسوارات المغشوشة. ويبدو أن البريطانيين محظوظون بالقياس إلى الأميركان، فقد عرفوا قدر أنفسهم فاستحقوا شيئاً من الرحمة، ربما بدعاء الأمّهات، ونصف هزيمة هي خير بكل تأكيد من هزيمة كاملة تسير بذكرها الرّكبان.
وقال الجنرال ريتشارد إن قوّاته (لم تخسر معركة تكتيكية واحدة) في العراق مفنداً بذلك تصريحات جنرالات أميركيين، بأن البريطانيين خسروا حربهم في العراق، ونقول للجنرال: صحّ النوم أيها القائد الهمام. لقد خسرت الحرب بكلّها، فما فائدة انتصاراتك التكتيكية؟ ويبدو من حرب الجنرالات أنّ الخلطة الأصلية للحرب قد كانت على طريقة المقاولين من الباطن، ولذلك يتحدّث القادة الأمريكان وكأن خسارة البريطانيين ليست خسارة لهم، وهم يقولون – ربما من باب التهويش – إنهم لن يرسلوا قوات لتحل محل البريطانيين. . حسناً فليستوردوا بحراً إلى بغداد أو الأنبار أوكركوك لتصدير 90% من نفط العراق الذي يُقيم أود حكومة المالكي في المنطقة الخضراء المحاصرة، لأن نفط الجنوب حيث البحر سيكون في يد الميليشيات وستُوقد به الحرب الأهلية التي سيمتدّ أوارها بعرض المحافظات الوسطى وصولاً إلى بغداد وحتى الموصل شمالاً والأنبار غرباً، تماماً كما هو حال مرض (الكوليرا) الذي ظهر في السليمانية في أقصى الشمال الكردي ووصل أمس إلى البصرة في أقصى الجنوب العربي، علماً أنه من إفرازات الحرب، حيث عجزت القوة الأعظم في العالم عن توفير مياه الشرب النظيفة للسكان على الرغم من مئات المليارات التي تصرف، وقد كشفت إحصائية أميريكية أن حرب العراق تكلف واشنطن 720 مليون دولار أميريكي في اليوم الواحد وهو ما يكفي لشراء منازل لحوالي 6500 أسرة أميريكية، وبحساب بسيط فإن تكلفة الحرب تبلغ نصف مليون دولار في الدقيقة، أو يتساءل الناس بعد هذا لماذا تتدنى قيمة الدولار يوماً تلو الاَخر لترتفع أسعار السلع في جميع أنحاء العالم؟ إنه وجه من وجوه الحرب المخفّية. . وما خفي أعظم.