حيادية العلم

.. يبدو أن التقنية الحديثة وما استحدثته من قنوات اتصال بين الناس تتجاوز ما عرف في كل التاريخ ، تعمل على إيجاد فضاء افتراضي يسبح فيه المتواصلون دون أن يعرفوا إلى أين تقودهم تلك الباحة ، فعبر التلفونات المحمولة يقتحم الراغبون الأسوار ويصلون حتى إلى غرف النوم ، وفي المحادثات عبر الانترنت بواسطة غرف الدردشة يجوب المتحاورون العالم لملء فراغهم وضرب سنسفيل الملل والعيش في فراديس كلامية تتحول في الكثير من الأحيان إلى صلات واقعية بعضها مفرح وبعضها مأساوي يؤدي إلى خراب البيوت وكشف المستور الذي في الصدور.
ولأن التاريخ لا يعود إلى الخلف وليس للإنسان فيه حق اختيار ما يعجبه وما لا يعجبه إلا في نطاق ضيق جدا فإن أمواج حركته تتدافع حتى تصل أبعد الشواطئ في نفوس الناس وعقولهم وأخلاقياتهم وما لا يستسيغه جيل معين يتبناه جيل ثان ويحمله على اكتافه قدر طاقته حتى يسلمه إلى من يواصل الطريق ، ومن الصعب التنبؤ بأي مدى للتطور (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ، ذلك أن فكرة التطور منذ انطلقت من عقالها في عصر الصناعة قد انغرست عميقا في الحضارة الحديثة وهي تتوالد من منجز إلى منجز ومن اختراع إلى اختراع فبعد البخار جاءت الكهرباء وبعد الكهرباء جاءت الطاقة النووية ولو تأمل المرء في ما نتج عن اكتشاف الكهرباء لهاله ما ترتب عليها من اختراعات ملأت حياة الإنسان بمقادير كبيرة من السعادة ومن القدرة على تجاوز الآفاق وعبور القارات واختراق الفضاء باتجاه الكواكب السيارة ، هذا وما زالت البشرية في حرف الألف من أبجدية تطورها المأمول بين السعادة والتعاسة، ففي عصر الثورة الرقمية والانترنت تشابك العالم تشابك الجسد الواحد ، وسيترتب على هذه الثورة نتائج تتجاوز كل خيال، ستطال الثقافات والقوانين ومفاهيم الوطنية والقومية وما يعتبر شؤونا داخلية وما هو من اختصاص الإنسانية ، كما ستهدم هياكل كانت حصينة في يوم من الأيام مثل الإعلام المراقب وتقييد الحريات والتمييز ضد الغرباء ، وسيكون لفقراء العالم صوت وأي صوت ، كما لناهبيه سوط وأي سوط ، وسيشتبك الصوت بالسوط في حرب ضروس حتى يعتدل الميزان أو ينهار ، كما هو الحال دائما فإنه ما ضاع حق وراءه مطالب ، وستكون للتطور نتائج عرضية تشبه الحمى المنبئة عن المرض وللماضويين السكونيين أن يتوقعوا ما لم يخطر لهم على بال وليس عليهم سوى ترويض أنفسهم على التعايش فهذا عصر غير عصرهم، وفد إلى أرضهم من شتى بقاع العالم حيث أصبحت العزلة في خبر كان.. كما يقول النحويون.
ولنضرب مثلا لاختلاط الحب والكراهية أو اشتباكهما ، أو بصريح العبارة انفضاحهما في واحدة من الروايات المضحكة على حلبة (الانترنت) أو الشبكة العنكبوتية التي تربط العالم أفرادا وجماعات ، وهذه المرة من (البوسنة) حيث تعرفت (سناء) التي اتخذت لنفسها اسما مستعارا (حبيبة) على (عدنان) الذي أسمى نفسه (أمير السعادة) عبر غرف الدردشة وفتحا قلبيهما لبعضهما وناقشا مشكلات زواجهما وقالت سناء (لقد وقعت في الحب مرة أخرى، إنني جميلة ، وأعتقد أنني وجدت في نهاية المطاف شخصا يفهمني لأنه يعيش موقفا مماثلا لموقفي هو زواجه التعيس مثلي تماما) وكان موقف (أمير السعادة) مشابها تماما، وقد تواعدا ، ليكتشفا أنهما طرفا الزواج التعيس الذي يتحدثان عنه ، وإنهما خانا بعضهما ونفسيهما، فلم يعد أمامهما سوى الطلاق، هل للانترنت دخل في ذلك؟ لا أظن .. العلم محايد والإنسان هو ابن الارتقاء أو الخطيئة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s