حقاً إن «مصائب قوم عند قوم فوائد»، فقد تداعت الدول التي تدعي أن لها حقوقاً في القطب الشمالي، كما تدعي ذلك في القمر، والمريخ، وسائر المجموعة الشمسية حين تتمكن من الوصول إلى أي منها وغرس أعلامها، أما بقية البشرية فهم من أبناء «الجارية» بالقياس إلى أولاد «الست» الذين أخذوا في التنادي لاقتسام الغنائم حتى من قبل أن تبدأ الحرب الساخنة في الأرض الباردة.
وملخص الأمر أنه بسبب الاحتباس الحراري الذي أصبح معه العالم كلُّه بيتاً زجاجياً والخلق نباتات مريضة لا يلفحها الصقيع ولا يذيبها الحر كأنهم في غرفة إنعاش، فإن ثلوج القطب أخذت في الذوبان كاشفة عن ملايين الكيلومترات المربعة الغنية بالثروات النفطية والغازية والمعدنية التي أسالت لعاب الأمريكيين، والروس، والكنديين، والدانمركيين أصحاب «آيس لاند» وجيرانهم من الإسكندنافيين، وأولاد عمهم الإنجليز، وحتى الصينيين أقبلوا بمعداتهم وأنشأوا لهم محطة و«من سبق أكل النبق» وبدون شك إلاّ لدى السُّذَّج فإن آلاف الخبراء يقومون برسم الخرائط، وتقسيم الأراضي وتحديد الحدود في دهاليز تحت الأرض حتى يحين الوقت الذي سيعقد فيه مؤتمر لهذه الدول ليأخذ كل مدّع نصيبه من هذه الغنيمة الباردة التي يشبه وضعها الآن وضع اكتشاف القارتين الأمريكيتين على يد كريستوفر كولومبس مع فارق وحيد أنه لا يوجد في القطب هنود حمر ولا صفر وإنما الدب القطبي المهدد بالانقراض، والفناء، وطيور البطريق التي كانت مطمئنة إلى معيشتها في تلك السهول الثلجية قبل أن يدهمها الإنسان بالتلوث الذي سيقتلعها من الجذور، وقد يتفضل عليها بمحمية، فحالها والأمر كذلك من حال الهنود الحمر الذين ينقرضون بانتظام ويعيشون في محميات قذرة بعد أن كانوا سادة الأرض وملوكها، ولا عزاء للمنقرضين.
ولكن الأمر ليس كله على هذا الوجه القشيب الكثيب فذوبان الثلوج أخل بالتوازن البيئي في العالم كله وسيرفع مياه البحار بما يهدد المدن الساحلية في مناطق عديدة من العالم بالغرق كما غرقت «اطلانطيس» الفردوس البشري المفقود الذي انتبه إليها مؤرخو اليونان لما قبل الميلاد من التراث الشفوي لسكان البحر الأبيض المتوسط ولم يتم العثور عليها إلى اليوم إلاَّ رجماً بالغيب، فمرة يقال أنها كانت بلداً، ومرة مدينة، وثالثة قارة، وكله عند البحر كما هو عند العرب صابون، فالبحر الذي يغطي أربعة أخماس الكرة الأرضية لا يفرق لديه إضافة خمسين مدينة مزدهرة حول العالم إلى بطنه الكبيرة، كما أن «الدلتا» التي تشكل أخصب الأراضي للأنهار العظمى مهددة بزحف البحر، لأنه كما نعلم جميعاً فإن جميع الأنهار تنتهي إلى البحار وكانت هي تقضم البحار وتضيف شواطئ جديدة بما تحمل من الـ «غرين» أما اليوم فقد آن أوان حساب البحر معها في عملية معاكسة وكما يقال: «كما تدين تدان»، هذا ولم نتحدث عن المناخ بعد وهو الأقرب إلينا من حبل الوريد ونعايشه في الأعاصير والأمطار التي أغرقت بلداناً كثيرة فيما يشبه النقمة المتصاعدة عاماً بعد عام.
أمس الأول أفادت وكالة الفضاء الأوروبية بأن الممر الشمالي الغربي في القطب الشمالي فتح تماماً مما مهد طريقاً للإبحار بين أوروبا وآسيا كان يستحيل المرور منه، وأشارت إلى أن الذوبان بلغ أدنى مستوى له منذ بدأت القياسات بالأقمار الصناعية قبل 30 عاماً، وقد بلغت المساحة التي يتراجع عنها الجليد بشدة ثلاثة ملايين كيلو متر مربع -ياللهول- وقد توقع العلماء بأن يخلو القطب من الثلج تماماً مع حلول عام 2040م، وبذلك يفقد العالم أعظم مخزون تاريخي إلهي للمياه الصالحة للحياة لتتحول إلى ملح أجاج. والسؤال هو: من يعوض بقية العالم جراء كوارث اختلال المناخ وارتفاع مستويات مياه البحار؟ لا أحد يتكلم من الذين يتسابقون على تقاسم القطب فبقية البشرية تشارك في الخسائر وتحرم من الأرباح وفق منطق النصابين في أسواق المال، و«مصائب قوم عند قوم فوائد».