اختار الأستاذ عبدالعزيز المقالح للشاعر محمد عبدالسلام منصور قصيدة، «موقف البحر»، من ديوان «إيقاعات على خطى النفري»، وذلك ضمن الحصة اليمنية من «كتاب في جريدة» الذي يتلمس ديوان الشعر العربي في الربع الاخير من القرن العشرين، وهو ديوان أمطاره غزيرة وكثيفة وتحولاته غنية وخصبة ومرافيه الشعرية دقيقة وخطيرة ولكن مثل سيل وقع على صفا أو حصباء لأن الهّوة بين المبدعين والمتلقين جعلت سوق الشعر يبدو كاسداً أو كالكاسد لدرجة أن المهتم بالشعر ولا أتحدث عن اللاّمبالي قد يفاجأ بقامات ذات أصالة وتمكن وهو لم يقرأ لها الا القليل وبالصدفة ربما.
على كلَّ: الشاعر محمد عبدالسلام منصور الذي ذكر الاستاذ عبدالعزيز في المقدمة ان له الى جانب مجموعته. إيقاعات على خطى النّفري ثلاث مجموعات أخرى هي «الهزيم الاخير من الوقت» و«من تجليات ابن يقظان» و«الشاعر الشرفي في الديوان الغربي» يبدو مثل الرّبان المتمكن يقود سفينته الشعرية في لجج البحار بكل ثقة غير مبال إن عصفت أو دَجَت فهو بوصلة نفسه ومشايخه من الكبار الذين تتلمذ على شحطحاتهم واغتسل بمياههم واطلعوه على أسرارهم ونجواهم.
«في البحر أو قفني وحدي، وليس معي سوى الجهالة، والأوهام تسكنني. قال: اركب البحر، قلُت الرّيح عاتية هوجاء، والفُلك يهوي في مجاهله فكيف اركب؟ والأمواج فاغرة اشداقها، كحشود الجن، يرعبني هذا المدى، يتراءى في المدى، كُثبا زرقاً قد اشتعلت شيباً، كما الدهر لو القى به الغضُب».
هذا وما زال مع «خَفِده الفقري» على الشاطئ، الاستاذ يحاول ان يدفع تلميذه الى عمق الهوى وملكوت الجذب، والطالب يهوى الشّوق ولكنه لم يكابده، ويخشى من الغرق أمّا اذا أوغل بعد حين ف «من يركب الموج لا يخشى من الغرق: «لِمَ الرّحيل؟ فهذا اليّم أوله بُعد وآخره غيب، وفي عمقه المجهول ينتظرُ. من أين جئت بهذا الكوكب المترامي الموج تغرقني؟ قال: اركب البحر.. صحتُ الآن؟ قال: نعم.. أين السفينة؟ قال الروح، قلت : الا مجداف؟ قال: ألا تدري ؟ الضلوع مجاديف الهوى، هتفت روحي لخاطفها ياقاتلي في الهوى إن الهوى قدر، من يركب البحر لا ينجو…».
لا أدري اذا كان الشاعر قد كابد التجربة روحياً أم أنه استمزجها شعرياً واستلهاماً، ففي الأولى سيُفتح عليه كون آخر عبره قبله سلاطين العشاق فكان جمره برداً وسلاماً على قلوبهم، وفي الثانية ستكون حدود التجربة حدود القصيدة المفردة والاستلهام الثقافي الذي يبدو محمدعبدالسلام من التاعبين عليه، فبدون الثقافة تتصحر المواهب ويفنيها المرعي الجائر دون إعادة زرع.
ليس أمام الشاعر سوى الإيغال في التجربة حتى الكشف فما قيمة أن تطرق الباب طالباً ثم تعود خائباً، تلوب في الغبار بعد أن اقتربت ملكاً من سيف الخطر السّاطع الذي يخطف الألباب:
«هيا الى البحر، لا تنظر الى أحدٍ غيري، فمن نظرت عيناه وعيني يلقاني فأسكنه، ويسكن البحر حباً في الصلاة، فلا تخشى الركوب، فمن.. يخشى السباحة لا ينجو من الغرق» تجربة شعرية رهيفة بلغة طازجة غير مداسة نجدها لدى محمد عبدالسلام فهو يراكم مخزوناً اذ يتهيأ للرائي انه يسحب منه، ونفسه متصل حتى الإحاطة: «فاستسلم الطرف مفتوناً أغسله بالشمس مشرقة زرقاء فابتردت، نيراننا الهوج، آه كيف يسحرني بالنور هذا المدى الطاغي وزرقته».. ياسلام.. إن من الكلام لسحراً.