
الزميل الشاعر المتألق البالغ الحساسية، جاري على هذه الصفحة اسماعيل الوريث، لم يجد مثل كثيرين غيره من شعراء الزمن الهلامي الرجراج، مايسنده أو يلهمه في محيطه الجاف إلا من حشرجة الأوراق الصفراء تكنسها رياح الخريف، فأوغل بعيداً متكئاً على احدى منارات الزمن الروحي الشاعر الصوفي «فريد الدين العطار» فجاءت قصيدته التي اختارها استاذنا د.عبدالعزيز المقالح ضمن مختارات «كتاب في جريدة» أشبه بالبلسم قد يخمد الألم ولكنه بالتأكيد لن يبرؤه، وتلك مأساة الشعر والشاعر وسر انبثاقهما الدائم من قلب الإنكسار، ولكن مالايفيد المبدع مجازاً قد يفيد قارئاً
قاده القدر الى القصيد فطفق يخصف مايغطي جراحه العارية دون ان يدرك ان البلسم جاء من النزف، وليس للنازف سوى إحساسه العميق باقتدار الجمال على الكمال، واجتراح المبنى للمعنى الضائع في ملكوت الروح المجروح.
«حتى تجهم رب الدار، ورأيت العتمة بعد البهجة في قسمات الزوار، آثرت الوحدة، تتبعني خطواتي، مبتعداً عن هذا الكون المنهار». لوحة خارقة للإنسلاخ المؤلم، ورب الدار هنا مطلق، لايصلح شيئاًولايصلح معه شيء، ثماره المرة العتمة، والوحدة والإنهيار لذلك فإن الشاعر الذي ربما
جاء بالصدفة الى دار البوار، يهرب كأنما من الطوفان في عجلة من أمره وعمره حتى ان خطواته الهاربة تتبعها خطواته الحقيقية في زمن سوريالي، ولكن.. الى اين؟
«وخرجت لوجه الريح يطوقني إعصار، ويطوح بي إعصار، والى من أهواه سلكت دروباً تفضي للجنة والنار، محمولاً فوق متون الغيم السبع الممتدة كالأنهار، أصعد في جدران الليل تهدهدني نسمات الأسمار».
كأنما حلم مفجع، كابوس خانق، ينتهي نهاية سعيدة: إعصار في إعصار في خريطة كون منهار، والشاعر الأشبه بالريشة في مهب العاصفة يحتفظ بحلم
دفين فثمة جنة وثمة نار، ولكن هذه الدفين انطق بالغيم والانهار ونسمات الأسمار فاستطاع ان يهزم الوحشة والكآبة وان يحول مسارات الانهيار، فاللغة هي كون النجاء في ظلمات الوباء، ومن شاعريتها ينبع الخلاص، ويطلب الإخلاص، لا من الناس الذين يجفون كونهم من لحم ودم ليحولهم الشاعر الى قاموسه كلمات، نسخ صاعد، ونسخ هابط، اخواناًعلى سرر متقابلين. الشعر طعام الأبدية الذي يبقى ويبقي بعد ان يذهب كل شيء، وتلك هي المكافأة وان كان رماداً في وجه الريح، إلا أنه الرماد المقدس، صانع الحياة وباعث الخصب حيث بساتين الأنغام.
“وعلى مقربة من شجر الإشراق،
وعرش الأسرار
قابلت فريد الدين العطار
قد غير هيئته
طيراً بجناحيه يشق الآفاق،
وتتبعه قافلة الأطيار
فهمست باذنيه إلى أين يسير الركب
فأسمعني ما ألف من أشعار
إعرف نفسك قال لي الشيخ،
وكررها ثانية حتى تعرف وجه الله.
وصفَ جناحيه وطار
فجذبت زمام الغيم،
وفي أحضان الليل نزلت
لأبحث عن نفسي في بيت الخمار”
نحن أمام تجربة عروج في سماءالشعر والحلم والملكوت، وقد استطاع اسماعيل تكثيف اللحظات العديدة الأدوار المتعرجة المسار العميقة الأغوار في ثلاثة مقاطع افتراضية فصلت مابين الجنة والنار، ومابين التعاسة والسعادة، ولم تكن هناك من أدوات بناء وتحطيم سوى الشعر ونار الشاعر التي
لاتنطفئ حتى بعد انطفاء حياته.
رحم الله الشاعر إسماعيل الوريث الذي توفي بتاريخ 31- 8 -2013