في وجهه إنسانية تتجاوز الحدود والقوميات واللغات، وقوة لا تتأتى إلاّ من نسغ الروح حين تجد نفسها محمولة سابحة في سماء زرقاء في طريقها إلى كون لا نهائي تطرزه النجوم وأصداء الدهور، وفي صوته شدو البحر واحتدام الجبال ورقة الأنسام، وحلاوة الأشواق التي لا تتحقق إلا في ذروات الغناء الفسيح حيث يغيب المنشد في النشيد ويتحولان إلى طاقة ضوئية تخترق القلوب الثملة وتحيلها إلى مهرجان ألوان وفرح.
وَجْهُ «المايسترو» الراحل نجم الأوبرا الايطالي العالمي الذي رحل عن دنيانا عن 71 عاماً «لوتشيانو بافاروتي» أو «لوتشيانو الكبير» كما كان يسمى تتأمله فتشعر كأنما انبثق للتو من تحت إزميل مايكل انجلو النحات الايطالي العالمي الأكثر شهرة، بعينيه شبه المحمرتين المغرورقتين في ينبوع دموع يُحس ولا يلمس، والمضمخ بأصداء حنجرة مدارية تقصف كالرّعد وتسطع كالبرق وتهمي كالمطر، وتقدم نفسها بتواضع فلاّح يقدم خبزه الساخن إلى ضيوفه وهو يشعر بالامتنان لهم لأنهم تقبلوا عطيته بمحبة، وحين أطبق السرطان على بافاروتي لم يجد داعياً للتشبث بأمل كاذب، فطلب نقله إلى منزله ليموت بين يدي زوجته وبناته وقد كان، حيث قال مدير أعماله «تيري روبسن»: «قاوم بافاروتي مرض سرطان البنكرياس حتى الرمق الأخير، وواجهه بالكرامة نفسها التي وسمت حياته بأسرها، وقد بقي متفائلاً حتى النهاية، ورحل محاطاً بأقرب الناس إلى قلبه».
الكرامة ربما كانت مفتاح هذه الشخصية الآسرة، ذلك أن الكرامة التي هي مزيج من الكبرياء والتواضع والمحبة واحترام النفس هي النبض الإنساني الذي يستطيع مقاومة تسليع الإنسان في عصرنا وجعله أسير نهم الاستهلاك والنظر إلى البضائع المغشوشة في الرفوف العالية التي لا تطالها الأيدي وإنما تلهب القلوب بالحسرة، ورغم الغناء والغنى فإن ملك الأوبرا قد استغنى بما يأتي به عرق الجبين، عما تجود به أيدي اللئام، ومن حسن حظه أنه عاش في مجتمعات تعرف قيمة الموهبة وتشتري ثمارها بكل نفيس، وقد انعكست «كرامة» بافاروتي في مساعيه الخيرة لجلب السعادة للآخرين وخاصة للأطفال.
وكتب «سمير صنبر» الشخصية الأممية المرموقة «كان لوتشيانو بافاروتي أول سفراء الأمم المتحدة للعناية بأطفال الحروب، هو نفسه ترعرع في فقر الحرب العالمية، وهبه الله نعمة القناعة الباسمة والصّوت العظيم: إذا ابتسمت أحبك الناس، وإذا غنيت أحبك الله. في سراييفو بكى وهو يحتضن الأطفال الجرحى، وفي ليبريا رفع صوته ضد دفع الأطفال إلى حمل السلاح، وفي بلدته «سودينا» رقص طرباً عندما علم أنه استطاع أن يجمع للمحتاجين مليون دولار في ليلة واحدة».
وقد كانت مراسيم تشييع بافاروتي قبل أيام تعكس حب الناس له فقد ألقى عشرات آلاف الأشخاص نظرة الوداع على جثمانه، ووزعت 87 ألف صورة له عند مدخل الكاتدرائية، وفي الوقت المحدد لخروج النعش قام سرب من الطائرات بالتحليق فوق الساحة الرئىسية للمدينة، وكان الرئىس الايطالي قد ذهب إلى الكاتدرائية لإلقاء نظرة وداع.
بالكرامة عاش بافاروتي، وبالكرامة أحب الضعفاء المحتاجين إلى العون، وبالكرامة رحل دون أن تخونه الابتسامة.