
أمثولة عبدالرحمن عارف…
27 أغسطس 2007
دُفن الرئيس العراقي الأسبق عبدالرحمن عارف (91) عاماً أمس الأول في منطقة الكرامة الأردنية بالقرب من الحدود مع العراق، وذلك في مقبرة شهداء الجيش العراقي من الذين شاركوا في معارك العرب وإسرائيل بين عامي 1948 و 1967، وكان قد توفي فجر الجمعة في مدينة الحسين الطبية بالعاصمة الأردنية عمّان التي يَفِدُ إليها عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين يومياً طلباً للنجاة وكسرة خبز يابس لم تعد سائغة في بلاد الرافدين، أو حتى من أجل الحصول على قبر يُعرف صاحبه حتى لا يدفن بدون رأس لا تعرف له هويّة في عاصمة الرشيد.
لكم تبدو المسافة بين 17 يوليو 1968 يوم تمت الإطاحة بعارف من قبل (البعث)، ويوم رحيله شاسعة وجارحة كأنها الأرض اليباب المحروقة، وسينظر كثيرون في أيديهم الملطّخة بالدّماء، ليدركوا أنهم كانوا يبنون خرابهم، وأن الشّعارات التي حالت بين الناس واستنشاق الأوكسجين قد سمّمت حياة الملايين لأن ما من أحدٍ كان يجرؤ على قول (لا) أو حتى يتساءل لماذا، في الوقت الذي كانوا يتساقطون فيه قتلى كالذباب، ذُعر فردي، وانتحار جماعي، في مفارقة سيقف أمامها المحلّلون النّفسيون للجماعات طويلاً، لمعرفة آلية إرهاب الدولة، وتكوين فرق القتلة والمقتولين، والتحوّلات التي تطرأ على تلك البنية جرّاء الولوغ المتفاقم في الدماء، وارتفاع شروط أسقف الولاء وعبادة الأصنام، حتى يخشى الناس من أحلامهم في المنام، ويصبح الوطن ملاذاً لأشباح تشبه الطرائد، تركّز تفكيرها على مدار العمر كلّه باتجاه فوّهات بنادق الصّيادين الذين يتسلّون أحياناً بقتل بعضهم طلباً للإثارة ودفعاً للسأم، حتى قبل أن يفكروا في فئة التهمة المبرّرة لذلك الفعل، فذلك تخصص آخر له ناسه ممن يقتاتون على فتاته، وكلّما استحرّ القتل تمثلوا بحكمة رأس الذئب الطائر، دون أن ينبسوا بها لأن للجدران آذاناً، وللـ (الأخ الأكبر) عيون ترصد دبيب النملة السوداء في الليل الظليم.
لقد أراح الإنقلاب عبدالرحمن عارف، وبذلك طار عمره حتى جاوز التسعين – مع أن الأعمار بيد الله – وقد شاهد من تقلّبات الأحوال وفجائع الأهوال ما يجعل الإقتراب من حلبات السياسة العربية ركوباً لمخاطر ينأى الحكيم بنفسه وأهله عنها، حيث جرى استنان القتل الجماعي دون تمييز، وبأبطش ما يمكن، حتى ليُعتبر البقاء على قيد الحياة في قيود الذل والهوان منّة عظمى يمكن إلغاءها بجرّة سيف إذا ما قال الممنون “آهـ”، كما جرى استنان قطع لسان من يخوض فيما لا يعنيه، وخاصة بخصوص الرمز الأعظم، حتى أصبح الشعب لا يملك من أمر نفسه ولا مستقبله شيئاً، وهذه حقائق لا يمكن إنكارها، وإن تدثّرت بعطايا المال الحرام، والشعارات وافتعال الحروب والمناوشات وابتياع الضمائر، والأمر الذي أدى في النهاية إلى الوضع الحالي الذي يتكشّف يوماً إثر يوم أنه أكثر سوءاً وأشد جنوناً وأوغل في الدماء، لكأن اليوم يعيد البارحة ويباريها في الغلوّ والجنوح والسعي المحموم إلى التفرّد بالسلطة.
رحم الله عبدارحمن عارف، الرجل الذي عاش حياة جد بسيطة حتى وهو في سدّة الحكم، فقد كان يتنقل في بغداد بسيارته الخاصة دون حراسة، وكما وصفه ابنه قيس فقد حكم وغادرطاهر اليد، لم يتلوث بأموال الشعب العراقي.