تشيني…

ديك تشيني
ديك تشيني

على الرغم من بلوغه الـ 86 من العمر، فما زال ديك تشيني – نائب الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش لفترتين رئاسيتين مثيرتين للجدل، وحافلتين بالأحداث الجسام، – يعمل بدأبٍ عاكفاً على مذكراته ووثائقه، ومحارباً في جميع الجبهات التي اعتاد الحروب فيها، وعلى الرغم من أن نصفه الأسفل قد خانه، فأصبح يمشي بكرسي متحرّك كما شاهدناه في حفل تنصب الرئيس باراك أوباما، إلا أن نصفه الأعلى لم يغدر به بعد، لذلك فهو يستغلّه إلى أبعد مدى، فهو يستيقظ مبكراً ويقرأ بنَهَم، ويقوم بجولةٍ صباحية بالسيارة لشراء قهوته المفضلة الخالية من الكافيين، كما يحضر مباريات في كرة القدم، ويقضي بعض الوقت في صيد الأسماك “اللهم لا حسد…”، فبعض الخلق من أولي العزم يجدون دائماً ما يشغلهم عن البكاء والتأسّي على العمر الضائع والصحة المتلاشية، والبعض الآخر إذا أصابهم الزكّام حوّلوا بيوتهم إلى مناحة، وأهليهم إلى ممرضين يقفون على رؤوسهم ليل نهار، لا يدرون كيف يرضونهم أو يهدّؤونهم، ولا اعتراض لنا، فالله تعالى “يخلق ويدلق” على رأي أهل عدن.

أنا كنت أظن – وبعض الظن إثم – أن ديك ببركة دعاء الوالدين قد وصل إلى منصبه الرئاسي المرموق، الذي جعله على امتداد سنوات ثمان في دائرة الضوء، ومركز الأحداث، والدول العظمى والمتوسطة والصغرى تضرب أخماساً في أسداس لتعرف ما يفكر فيه هذا الرجل المُغلق المتجهم المتكتّم، والذي وضع رئيسه قليل التجربة في جيبه من أول يوم وطئا فيه معاً عتبة البيت الأبيض، وبناءً على تصوّري الساذج قلت أنه سيبوس يديه الإثنتين بطناً لظهر وظهراً لبطن حمداً لله الذي قد يعطي “الحلق للي بلا ودان”، ولكنني حين قرأت بعض التسريبات حول مذكراته من مستشاريه وخاصته من “عظام الرقبة” وبعض الإعلاميين الذين يتشممون روائح دماء السياسة، ونزيف السياسيين بأعظم من أسماك القرش في البحر بأفكاكها المفترسة وأجهزة إستشعاراتها التي لا تخطئ الهدف ولا تضيّع الضحية الجريحة، أدركت أن الرجل يعتقد – وإن لم يصرّح – أنه لم ينل حقه من المكانة، ولا حظّه من الشهرة، على الرغم من أن منصب نائب الرئيس في أميركا ليس “ضغثاً على إبّالة” كما يقول العرب، وليس مُلكاً بلا حكم كما هو حال إليزابيث في بريطانيا، ولا “كوز مركوز” كما هو الحال في الأنظمة الديكتاتورية ونموذجها الذي ورد إلى ذهني هو طه محيي الدين نائب صدام حسين الأزلي، الذي توفي قبل أيام في الأردن، فلم يُعرف لا حياً ولا ميتاً، وأشك فيما إذا كان أحداً قد سمع صوته، فمات كما ولدته أمه، “ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر”، أقول إن منصب النائب في أميركا له شنّة ورنّة، حتى إن الرئيس لا يعود يعرف نفسه أو يتعرّف إلى قراره إذا كان نائبه من نوعية ديك تشيني، الذي صرح بعد انتهاء الوليمة الرئاسية بأن صاحبه بوش الصغير إتضح أخيراً أنه “لا يعدو كونه سياسياً عادياً”. لو كانت لتشيني أذنان يسمع بهما لعرف أن أبسط الناس من رعاة الشاة وحُداة الإبل كانوا يعرفون ذلك ويصرّحون به، وأنه لا فُضّ فوه لم يأت بجديد، ولم يحضر إلينا “الذيب من ذيله”. بوش سياسي عادي؟ ليكن فعباقرة السياسة في التاريخ يُعدّون بنسية ربما تقل عن واحد بالمئة، ولكن ماذا عن تشيني، وقد أخذ الجمل بما حمل، ماذا ترك للتاريخ؟ أليس هو وراء كل القرارات الكارثية من حرب العراق، إلى أفغانستان، إلى معاداة الأمم المتحدة، إلى إغراق أميركا بالديون حتى تقوضت مؤسساتها المالية الكبرى، وأصبحت تتسوّل العون الحكومي، بعد أن كانت كالفرس الشّموس، تتأبى على الترويض… هل نزيد من مآثر تشني وصاحبه الذي يبكي عليه، والذي قال أنه أفضل وزير دفاع في التاريخ “دونالد رامسفيلد” حيث استوحيا معاً خطط جوانتانامو وأبو غريب، واقرأ أساليب التعذيب وانتزاع الإعترافات وسريّة المعتقلات حول العالم، كما أنهما من غضّ النظر عن جرائم شركة (بلاك ووتر) التي استباحت دماء العراقيين العزل، واتضح مؤخراً أن صاحب ومؤسس هذه الشركة من غُلاة المعادين للإسلام والمسلمين، وأنه نذر نفسه وشركته وخريجي السجون وطرداء الجيوش الذين يعملون بمعيّته لهذه الغاية، وإذا كان الشاعر العربي يقول:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه=إن القرين إلى المُقارن يقتدي
فإن تشيني ورامسفيلد هما من الطينة والعجينة نفسها، وعادة فإن الطيور على أشكالها تقع. لكم يبدو بوش فاقد الإرادة، وخاصة في ولايته الأولى أمام العصابة التي أحاطت به بقيادة نائبه، والذي كان يُظهر الازدراء ويندد بالمسؤولين الذين يخرجون إلى العلن ما دار خلف الأبواب المغلقة، وها هو يفعل ما نهى عنه مع سبق الإصرار والترصّد:
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله=عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s