أعرب رئىس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون أمس الأول عن عميق حزنه لما لحق بصحافي رياضي إيطالي كان يمضي إجازة في باريس حين هاجمه اثنان من اللصوص في نفق المترو وسلباه حقيبة الظهر الخاصة به ولاذا بالفرار.. ولأنه إيطالي ودمه حار فقد لحق بهما «يا قاتل يا مقتول» ولكنه سقط في النفق بطريقة لم يكشف عنها فأصيب إصابات بالغة أدت إلى وفاته، الأمر الذي أثار حالة من الحزن في بلده لأن «سيرجيو فانا جياتو» كان معروفاً بكفاءته وإخلاصه للمهنة ومن صورته وتقاسيم وجهه الجادة تستطيع أن تجزم أنه من جماعة «ما ضاع حق وراءه مطالب» ولا يخشى اللصوص المحترمون إلاّ أمثاله فهم معتادون على عباد الله المساكين الذين لاطاقة لهم على الملاحقة والمنازلة والذين يؤخذون على غرة فيدعون الخلق للخالق وعفا الله عما سلف، وقد يرددون مع الشاعر:
نفسي التي تجلب الأشياء ذاهبةٌ
فكيف أبكي على شيءٍ إذا ذهبا
وأمثال «سيرجيو» كثيرون، من ضحايا «الوجه الآخر» للمدن السياحية العامرة حيث يتصيد اللصوص الغرباء المبهورين بتجليات المعمار ولمسات الفنون وحركة الناس الدائبة بين جاءٍ ورائح ومشترٍ وبائع، وكم من النصائح تُرجى للأغرار ليحتاطوا لأنفسهم ولكن المنحوسين يولون النصيح أذناً من طين وأخرى من عجين ولا يتعلمون إلا إذا لُدغوا، وقد قيل قديماً «ما ضاع من مالك ما علمك» وإذا كانت على المال فقد هان الأمر، ولكن الحياة لا يمكن تعويضها كما حصل لصاحبنا الذي كان بصحبة زوجته وطفله البالغ من العمر ثماني سنوات، واللذين جاءا معه وهو يتدفق بالحياة والأمل وسيعودان به جثة هامدة تذكرنا بما قالته أمّ «السليك ابن السلكة» حين نُعي إليها ابنها أحد أشهر صعاليك العرب فقالت: «راح يبغي نجوة.. من هلاكٍ فهلك»، ولو كان الصحافي الإيطالي يتوقع المصير لسلمهم الحقيبة بيديه وفوقها بوستين على خد كل منهم لأنه «يا روحي ما بعدك روح».
وقد صارت معي قصة كنت أظنها فريدة في بابها، ولكن الأيام أثبتت لي المثل الذي يقال عن مصر والذي أحرفه على مقاس باريس «يا داخل باريس من مثلك كثير»، فقد ذهبت ذات صيف واستنفرت زميل الدراسة: «ولْيَمْ زكي» وهو أحد أشهر الصحافيين العرب المقيمين في باريس وأمطرته بالتلفونات ليلاً ونهاراً لأضمن وجوده في المطار في لهفة ظاهرها الشوق وباطنها الخوف وقد عجبت لهذه المدينة كيف حولت صاحبي المصفرّ الوجه الهزيل البدن بنظارة سميكة أيام الدراسة إلى هذا الوسيم القسيم المكتنز بالعافية حتى يكاد لون التفاح الأحمر يتفصّد من خديه، وقد أخذني بسيارته المرسيدس حتى الحي اللاتيني الشهير، فطلبت أن يدلني على محل صرافة وكانت تجلس خلف زجاجة المصفح شابة تقرأ في كتاب وتسترق النظر إلينا ونحن نلقي نظرة على أسعار الصرف، فلما صرفت نصف ما معي وراجعنا الحساب لم نجده مطابقاً وكنت مثل «الأطرش في الزفة» لأن فرنسيتي «ميح»، عدا «مرسي بوكو» وبس، أما صاحبي فكانت فرصته ليثبت لي أن ربع قرن في باريس لم يكن زمناً ضائعاً، ولكن البائعة لم تعره التفاتاً بعد أن طلبت منه قراءة الملاحظات أسفل لوحة الصرف حيث كتب بحروف لاتكاد تبين أن السعر ينطبق على ما فوق العشرة آلاف دولار، وقد أخذ وليم الذي شعر بالخديعة يضرب الزجاج بكلتا يديه ثم يضرب «الكشك» بقدميه حتى كاد يسقط من الإعياء، وقد ذهبنا والفتاة تشيعنا بنظرات ازدراء فأصر على استضافتي في مطعم عربي، وكان ما كان مما ليس في الحسبان، إذ حمل النادل «الشوربة» الحارة فاختلّ توازنه فاندلقت على رأس وليم وبدلته الأنيقة، ولكم أن تتصوّروا حالة صديقي في ذلك النهار الباريسي الأسود، أما ما كان مني فقد بكّرت في صباح اليوم الثاني ومعي المبلغ المشؤوم الذي سرق مني في النفق، وحين شكوت في الفندق، قال لي صاحبه «لقد خسرت النقود وكسبت الصحة.. احمد الله.. فلو أنك اكتشفتهم لما تردّدوا في غرس خنجر في بطنك أو ظهرك.. الحمد لله.