الحكمة الضائعة

كل هذا الطحن الجاري في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه لا بد له أن ينقشع عن موازنات جديدة وعوالم جديدة ورؤى جديدة وتفكير جديد، فالبنى القديمة قد اهترأت ، والموازنات القديمة تترنح ، والرؤى العتيقة تنسل خيوطا بالية والتفكير الماضوي لم يعد له محل من الإعراب ورب هادم اليوم يظن أنه سيرث الأرض ، إنما يعمل لحساب قادم لم يبزغ ، ولكنه يختمر تحت التربة ، فهو يعمل مثل كاسحة الجليد تشق الكتل وتزيحها جانبا ، ولكنها لا تعلم أي الشاحنات والسيارات وأفواج المشاة التي ستسلك طريقها الممهد لتبلغ الغاية ، وهذه من سنن الكون التي تداول الأيام وتبدل الفصول وتقطف الأعمار وسبحانه (كل يوم هو في شأن):

هذه الدنيا ومن عاداتها

تنزل العالي وتعلي من سفل

في أقصى الشرق (العراق) زلزلت الأرض دون أن تستأذن أحدا ، ومازالت تحت المخاض ، تتكشف عن كل عجيب ، فالشيعة أخذوا يقاتلون الشيعة ليس على درب العقيدة، وإنما على آبار البترول ومن يحصل على العوائد الأجزل من ذلك الذهب الأسود الذي يسيل اللعاب، والذي كف أن يكون للوطن ، وأصبح للكفن لأن مهره من الدماء ووقوده من الجماجم، والسنة يقاتلون السنة ليس على نقاء العقيدة وحيازة شرف الفرقة الناجية ، وإنما على تاج إمارة إسلامية تحكم شظية من العراق وتتوضأ بدم الفرات، الذي تعتبره بترولها وتريد مقايضته بالنفط برميلا ببرميل، أو تحوله إلى الصحراء لتشربه الرمال وتجففه الشموس كما فعل صدام حسين بالأهوار ، إحدى عجائب العالم المائية، والتي جففها بجرة قلم ونفرة جيش لكي لا يكون برديها مخابئ لمناوئيه أو تكون طيورها شاهدا على رعونة القرارات التحكمية حين يجري اختزال الشعب في شخص الحاكم، والوطن في الخارطة التي يرسمها سوط الجلاد.

وفي أقصى الغرب المطل على الاندلس الخصيب (الفردوس المفقود) حيث بقايا قبائل بني هلال وحلفاؤهم أو نفراؤهم البربر الذين قال فيهم ابن خلدون ما لم يقله مالك في الخمر ، وما لم ير فيهم سوى حسنة واحدة وهي نشر اللغة العربية وكفاهم بذلك فخرا، مع الاحتفاظ بحق الاختلاف مع رأي عبدالرحمن بن خلدون الذي كان زمنه جياشا مضطربا يقضم البداوة للمراكز المدنية وفقا لغلبة قانون القوة، وهو حسب نظريته من الأمور التي لا دافع لها كأنها الأقدر تحملها خيول الزمان، مازال الأحفاد يضطربون في صحاريهم وشواطئهم وبواديهم وجبالهم يعالجون جرحا وينكأون آخر، فبين الجزائر والمغرب ما صنع الحداد بسبب الصحراء و(البوليساريو) يديرون محادثات صعبة في نيويورك مع المغرب الذي صرّح أن القرار في الجزائر ، وليس بيد البوليساريو ، وما دام الأمر كذلك وعلى رأس الدولتين زعيمين حكيمين فلماذا لا يتم اختصار الطريق والذهاب إلى رأس النبع بدلا من الذهاب إلى رأس النبع بدلا من التوهان بين السواقي ، لأن البديل صعب فـ(القاعدة) في المغرب الكبير تتربص بالجميع ، وقد خبرت الجزائر أكثر من غيرها الاكتواء بنيران الإرهاب . كما أن الرباط التي تنتظر انتخابات نيابية وشيكة ولديها جرحها الغائر في سبتة ومليلة ، قد ذاقت هي الأخرى عينات وافية من (حلوى) الإرهاب التي تحرق الجهاز التنفسي للسياحة التي تعد بترول المغرب الجميل.

إضاعة الزمن في هذا الملف الذي بلي من تقليب صفحاته دون قراءتها ليس من الحكمة في شيء وإذا كان للمغاربيين أن يتعلموا شيئا مفيدا من الضفة الأخرى للمتوسط فهو فضيلة الحوار المجدي وتجسير الهوة بين المطامح والمطامع، وحسن إدارة الخلاف على طريقة بورقيبة ، خذ وطالب، وليس بإحراق جميع المراكب على طريقة طارق بن زياد فقد كان ذلك مع أعداء زمانه وليس مع أشقاء مكانه.

الشاهد أن العالم العربي مصاب بالحمى الشديدة التي كانت من الأعراض إلا أنها تؤشر بقوة إلى الأمراض ، هذا ولم نتحدث عن القلب لأنه معلول بما لا يخفى على طلاب سنة أولى طب.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s