إرضاء جميع القراء غايةٌ لا تُدرك، وقد حاول هذا المستحيل كثيرون فتراقصوا على الحبال وعلى الكلمات ولكنهم وجدوا أنفسهم في المحصلة «مثل النعامة لا طيرٌ ولا جملٌُُُ»، ولهذا المستحيل أسباب كثيرة مغروسة في طباع الناس ومصالحهم وأهدافهم ومستوياتهم الثقافية، فأما ما كان من الطباع فإن النظر إلى الأمور وفهمها وإدراك عواقبها ليس عملية حسابية بسيطة، وإن كان يخيل لكل امرئٍ على حدة أنه وحده من يجري الحسابات الصحيحة، وقد اتضح أن الموروثات التي تسري مسرى النفس في الإنسان تحمل معها انجازاتها واختباراتها وأحكامها، لكأنما الحامل لها وعاء تستعرض عبره قواها وتجلياتها فيما هي توهمه أنه هو من يفعل، وهذا يشبه في العموم البصمة التي لا تتطابق فيها خطوط اثنين على وجه البسيطة.
ومن الواضح أن هذه التعددية المدهشة هي أساس تقدم الحياة الإنسانية ومداولة مراتبها بين الناس مع قدر معلوم وحيز مقسوم للإنسان لتحوير قدره بإضافة قوى مبتدعة إلى قواه المكتسبة، ومن هنا نلاحظ أن بيادر الحياة لا تتطابق دائماً مع حسابات الحقول، فقد تجد التلميذ الخامل وقد تكشف عن رجل أعمال مرموق أو سياسي مغامر، وقد تجد النابه وقد حمل يضرب أخماساً في أسداس ثم ينكفئ على نفسه وقد قنع من غنائم الحياة بالإياب والموادعة والنوم وأما ما كان من تلبيسات المصالح فمعلوم بالضرورة فكل ذي مصلحة يكيف جماع عقله ومرئياته حولها استجلاباً لحظوظها وذوداً عنها، وما من حقيقة بالنسبة إليه إلا ما تواءم من مصلحته فإذا أردت انتزاعها منه بالحق تشبث بها واستأسد ولا يفلتها إلا إذا وجد أن حياته هي الثمن، وإن كان في قرارة نفسه لا ينفك يحلم باستعادتها، وهذه حالة معروفة لدى الأفراد والجماعات والتجمعات على اختلاف مشاربها.
وأما ما كان من الأهواء فحدّث ولاحرج، فالهوى يغلب صاحبه ويعميه ويصمه وقد يورده موارد التلف حين يتمادى ويتجاهل أهواء الآخرين، والهوى هو التعبير الصارخ العاري عن مكنون الطبع واتجاهات المصالح وإيثار المرء لنفسه حتى وإن كانت لديه تسع وتسعون نعجة فإنه يسعى محموماً إلى اقتياد الواحدة التي بيد أخيه لتكون المائة له كاملة غير منقوصة، وهو في العادة لا يدري أن ذئباً أذأب منه يختبئ خلف الأكمة ليغريه ويغري قطيعه.
وأما ما كان من اختلاف المستويات الثقافية فُمضافٌ إلى ما سبق حيث لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولما كانت الكتابة باللغة، فإن من يستقبل الكلمات يتوهم أن غيره قد التقط المعنى نفسه، وهذا مُحال إذ أن للمفردات ظلالاً وإسقاطات وإيحاءاتٍ خفية قد تحول بين المرء ونفسه فكيف في ما بينه وبين صاحبه والثقافة بمدلولها في القراءة والدرس والاستيعاب والتمثل هي التي تساعد على انسجام المفاهيم في كل وسط بحسب مستواه، وصولاً إلى خلق هوية وطنية متواشجة مع حملها لبذور تناشزها حتى لا تتيبّس وتنغلق فتصبح تعصُّباً مذعوراً.