
عن 84 عاماً رحلت عن دنيانا يوم الجمعة المنصرم بالقاهرة الشاعرة العراقية الشهيرة (نازك الملائكة)، غريبة الديار، مجرّحة الوجدان، تنظر إلى حقول الشعر المحترقة في وطنها، فترى الدنيا بما فيها “قبض الريح وباطل الأباطيل، وأحلام الشعراء، في ترقية الإنسان كتابة على الماء، يمحوها قبل أن يتلوها، وينعيها قبل أن يجبيها”.
إنتسبت نازك – المولودة في بغداد عام 1923 – إلى جيل الأحلام الكبرى التي لم تكن تعرف ما ينتظرها في كتاب الغيب، وكانت قصيدتها (الكوليرا) في 1947 إنعطافة في مسيرة الشعر العربي عبر العصور، ولا يهمّ بعد ذلك أن تكسّرت النصال على النصال حول من بدأ الرّيادة ومن تلاه، فالمنتصرون يبلون في معارك اقتسام الأسلاب أكثر من إبلائهم في الحرب، ويكفيها فخراً أنها كانت الأنثى اللامعة بلا منافس بين كوكبة من الرجال الذين أمطرتهم سحب الشعر العربي في جيلٍ واحدٍ تقريباً، وربما كان أسبقهم جميعاً في كتابة قصيدة التفعيلة الأديب اليمني الكبير علي أحمد با كثير في ثلاثينات القرن المنصرم، في ضربة إلهام لم يُعن بالتأسيس عليها كفتح جديد، وبالتالي فقد خرج أو أُخرج من المنافسة، وإذا ذكر فباستحياء لرفع العتب.
وكانت نازك في كتابها “قضايا الشعر المعاصر” الصادر في 1962 قد منتحت نفسها وقصيدتها (الكوليرا) شرف الريادة الشعرية، ولكنها في مقدمتها للطبعة الخامسة أشارت إلى أنها فوجئت بأن هناك قصائد حرة معدودة ظهرت في العالم العربي منذ 1932، ولم تكن على علم بها حين ألفت كتابها المرجعي المثير للجدل، وهذه أمانة علمية تُحمد عليها، وتؤكد أصالة روحها، فالشعر والادّعاء لا يلتقيان، خاصة وأنها من بيت شعرٍ وعلم، وفوالدتها سلمى عبدالرزاق كانت تنشر الشعر في الصحف، ووالدها صادق الملائكة له مؤلفات أهمها موسوعة (دائرة معارف الناس) في عشرين مجلداً.
عاشت نازك الموت تجربة حياة يسكن روحها قبل أن تسكنه هي في إغفاءتها الأخيرة، وقد هَجَسَ شِعرها بالموت كأنه الحياة، وكأن الحياة هي الموت، وكانت تحس بدبـيـبه وهو يطاردها منذ بواكير وعيها وإزهارها للقصائد المطبوعة برياح الأحزان. من قصيدة (الكوليرا) الذي ضربت مصر نهاية الأربعينات هذا التوشيح الحزين:
“سكن الليل، أصغ إلى وقع صدى الأنّات، في عمق الظلمة، تحت الصمت على الموات. صرخاتٌ تعلو تضطرب، حزنٌ يتدفق يلتهب، يتعثّر فيه صدى الآهات، في كل فؤاد غليان، في الكوخ الساكن أحزان، في كل مكان روحٌ تصرخ في الظلمات، في كل مكان يبكي صوت. هذا ما قد مزّقه الموت… الموت، الموت، الموت، يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت”.
لنازك الملائكة سبعة دواوين: (عاشقة الليل 1947)، (شظايا ورماد 1949)، (قرارة الموجة 1957)، (شجرة القمره 1968)، (ويغيّر ألوانه البحر 1970)، (مأساة الحياة وأغنية للإنسان 1977)، (للصلاة والثورة 1978). ولعلّ القراء يلاحظ من العناوين اتجاه الشاعرة إلى الداخل الإنساني المليء بالأنقاض والكوابيس، مع حلم شفيف بإطلالة فجر. أما مؤلفاتها – وهي الأستاذة الجامعية – فهي: (قضايا الشعر الحديث 1962)، (التجزيئية في المجتمع العربي 1974)، (سايكولوجية الشعر 1992)، (الصومعة والشرفة الحمراء).
في قصيدة (الأفعوان) تلخيصٌ لمسيرة روحية لم تفلتها يد العدم، وقد طاردت نازك بالشعر قاتلها الخفي دون أن تتمكن منه: “أين أمشي؟ مللت الدروب… وسئمت المروج… والعدوّ الخفي اللّجوج، لم يزل يقتفي خطواتي فأين الهروب”.
رحم الله نازك الملائكة، النموذج الأغر للمرأة العربية الجديدة التي فحتت بأظفارها جدران الظلام.