فاكهة السفر..!!

القراءة فاكهة السفر كما هي النار فاكهة الشتاء، وحين تمسك بكتابٍ قيّم فتأسرك مبانيه، وتمطرك معانيه، وتستجلي مغانيه الوريفة، تدرك جودة المعنى الذي اختطفه (أبو الطيب المتنبي) من فم الزمان، ورصّعه بالبيان حين قال:

أعزّ مكان في الدُّنا سَرجُ سابحٍ
وخيرُ  جليسٍ في الزمان iiكتابُ


ولكن هذا لا يعني أن تقتعد زاوية من مقهى حسن الإضاءة، واضح البراءة، فتنيخَ هناك دافناً وجهك بين السطور لا تلتفت يميناً أو شمالاً، تصل الإفطار بالغداء، والغداء بالعشاء، فإن ذلك ترفٌ لا يحتمله السفر، وإنما هي الاستراحة بين جُهدين تروّح بها عقلك بإعطاء فرصة لعقل آخر يُحدّثك عما رأى مما تمثّله نفسياً، فأجهد نفسه ليشركك معه في تجربته، وبذلك تضيف إلى حياتك حياة أخرى، وإلى عقلك عقلاً آخر، علماً أن السفر هو قراءة مكثفة في الطبيعة وتجلّياتها، وما أكثر وأنظر وأعبق تلك التجليّات الإلهية المُبهرة، تأسرك في جناح فراشة بحديقة الفراش في (بينانج) بـ (ماليزيا)، أو بأنشودة المطر الموسمي الذي تتهطل قطراته بحجم عيون البقر وليس مما نعرف من مطر شحيح قطراته حجم عيون الذباب. وحتى في الصحراء – التي نتهيّبها وهي كنوز مرصودة بكثبانها ورمالها وسحر ليلها وبهاء نجومها – يوجد الكثير الكثير لعشاق الطبيعة الصادقين وليس المدّعين من فصيلة (العاشق الكذاب يفرح بالتّهم)، وإليك ما قاله الرحّالة الإنجليزي الشهير (ويلفرد ثيسجر) الملقّب (مبارك بن لندن) الذي استكشف مجاهيل الربع الخالي ووضع كتاب (الرمال العربية) الفريد في بابه: “منذ تركت جزيرة العرب، سافرت عبر شعاب (كراكورام) و (هندوكوش) في جبال (كرسدتان)، ومستنقعات (العراق)، مدفوعاً دائماً إلى الأمكنة البعيدة، حيث لا تستطيع السيارات الوصول، وحيث لا تزال العادات القديمة. ولقد رأيت بعضاً من أروع المناظر في العالم، عشت بين قبائل عجيبة وغير معروفة، ولكن واحداً من هذه الأمكنة لم يهزني كما فعلت صحراء الجزيرة العربية.”.

على كل حال، فإن أهل الصحراء يتطلّعون إلى أهل الخضراء، وكل يبحث عما ينقصه، والإنسان في البرد القارس يحنّ إلى شمس الصيف، وفي القيظ الذي يخلس الجلود يتمنى نسمة برود من الشتاء. وكان رفيقي (علي الضيآني) إذا ما شنّ المطر في موعده الذي لا يخلفه عصراً ونحن نطوف بمغاني (بتروناس) في (كوالالامبور) تنتابه حالة وجدٍ مثل مجاذيب الصوفية، فينطلق بلا مظلة ليغتسل بملابسه تحت الإنهمارات المطرية بنشوة عجيبة، ثم يقول لي بأسى حقيقي: “لو أن هذا المطر في بلادنا…”، فأردّ عليه بالقول: “شرط أن لا ينقطع هنا…”، مذكراً إياه ببيت (المعري) ذي الأبعاد الإنسانية العظيمة لثقافة تقدّس الإنسان بغضّ النظر عن جنسه ومعتقده:

فلا نزلت عليّ ولا بأرضي
سحائبُ ليس تنتظم البلادا

فيشيح عني بوجهه لا غضباً وإنما حسرة على عشر شجرات خلفها في كنّ ببطن جبل تحت وعد السحاب الذي أخلف وعده:

ما أنت والوعد الذي تعدينه
إلاّ  كبرق سحابةٍ لم تمطر

أربتّ على كتفه المشبّع بالماء، وأقول له أن المطر هو مناسبة للفرح وليس للحزن، وأن نصيبنا من فواكه هذه الأرض ومنتجاتها يأتينا حيث كنا، فلنحمد الله تعالى الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه، ثم أردد على سمعه ما سمعه مني مراراً وتكراراً:

ملك الملوك إذا وهب
لا تسألنّ عن iiالسبب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s