الجغرافيا تترنّح في الشرق الأوسط فيما التاريخ يمشي على رأسه وبالكاد يرى التراب الذي يقف عليه لا أبعد. الإسرائيليون يعبرون الحدود الفلسطينية كل يوم واللبنانية كلّ عام والرّسالة واضحة للحدود الأخرى التي تصل حتى اَسيا الوسطى مروراً بالعراق وإيران بعد سورية، الأكراد يعبرون الحدود التركية الكردية وأنقرة تجهّز لعبور الحدود العراقية حتى الموصل وكركوك إذا استشرنا ملفّات التاريخ. الإيرانيون يعبرون الحدود العراقية على مدار السّاعة ويهدّدون الحدود الخليجية بلغة فجة غير معهودة وكأن الخليج العربي هو الذي يرسم لأمريكا سياساتها، الأمريكيون يعبرون كل الحدود العربية ويتدخلون فيما لا يعنيهم حتى يصبح ما يعنيهم تحصيل حاصل يسمح لهم بالجلوس على كرسي الحاكم وكرسي القاضي. القاعدة تعبر الحدود من أفغانستان حتى لندن مروراً بإسبانيا وبلاد العرب وهي تحمل على ظهرها وفي بطنها أيديولوجيا التطرف والتكفير ولا يعنيها من دماء الناس وأعراضهم شيء، إنها تثير الفوضى والبلبلة وتنتظر أن تتساقط ا لثمار في مخلاتها، فيما النظراء الأمريكيون يعتمدون رسمياً سياسة (الفوضى الخلاّقة) يروّعون بها هذا الشرق الأوسط الذي يرون فيه عجينة تنتظر من يشكّلها أرغفة ثم ينضجها على نيران حامية. الإسلاميون يعبرون الحدود من غزة إلى نهر البارد إلى الطوائف العراقية المتقاتلة إلى جبال أطلس في الجزائر ومدن المغرب، الليبراليون يعبرون الحدود إلى اللاّ معنى واللاّ فعل، وهم يستمعون إلى نداءات التاريخ، فيما الواقع ينكرهم ويتنّكر لدعاويهم، فهم إمّا وصلوا متأخرين جداً وإمّا أن وقتهم لم يحن بعد، ولذلك يبدو دورهم الرّاهن باهتاً فهم يعيدون إنتاج مقولات غربية لها ظروفها التاريخية وناسها وعصورها، وهي بالتالي ليست مقولاتهم إلاّ من باب التشبّه بالكرام.
الجغرافيا تترنّح بفعل تطور تكنولوجيا الصواريخ التي تستعصي على الصد، والمدنيون داخل حدود الجغرافيا يريدون أن يعبروا إلى حدود متاحة خوف الحرب وقد تابعنا أخبار اَلاف السودانيين الذين يعبرون الحدود إلى إسرائيل وعشرات اَلاف الإسرائيليين الذين يعبرون إلى أوروبا وأمريكا وملايين العراقيين الذين يعبرون إلى أي مكان في العالم يمكن العبور إليه، وبفضل هذا العبور الطوفاني تحوّلت لندن إلى عاصمة شرق أوسطية وباريس إلى عاصمة مغاربية، والأجناس يطارد بعضها بعضاً في أزقّة المدن الداخلية ومقاهيها ومنتدياتها. الإنترنت تعبر الحدود والعقول والمقدّسات ومن في يده حجر رمى رأس من يريد، وكذلك يفعلون. الفضائيات غيّرت أوزان الدول.
فسار بها من لا يسيرُ (مهدداً) وغنى بها من لا يغني مغرّداً وانظر إلى دولة (قناة الجزيرة) وما تفعله في العلاقات العربية العربية والحدود التي لا تعترف بها لا مادّياً ولا معنوياً. الجغرافيا تترنّح والتاريخ يسير على رأسه (واللّي ما يشتري يتفرّج).