لأنه نجح حيث فشل اَخرون، فقد عزز ذلك من رصيد صدقيته وبُعد نظره السياسي والاستراتيجي، بغض النظر عن من أرادهم فالأموات في الحروب لا يستمع إليهم أحد، وقد استحق هنري كيسنجر الألماني المولد الأمريكي الجنسية والهموم لقب (الداهية) الذي لم يحظ به سوى قلة عبر التاريخ، وهو يُعدّ بين اشهر وزراء الخارجية الأمريكيين الذين يشار اليهم بالبنان، ويعتقد كثيرون أنه كان بمثابة رئيس من وراء ستار للولايات المتحدة وخاصة في ذروة فضيحة (ووترجيت) التي ضربت الرئيس نيكسون وجعلته شبه مشلول يغرق في عاره الذي أخرجه من التاريخ ليدخل كيسنجر اليه، وكان أهم إنجازين لكيسنجر هما تعويم العلاقات الامريكية – الصينية الغارقة، وإغراق العرب في (كامب ديفيد).
ما علينا. . فهذا الداهية يشبه (تاليران) وزير خارجية نابليون الذي كان ينام ملء عينيه عن شواردها فيما أوروبا وفرنسا تحتدمان لأنه كان يحدس المصائر الفاجعة التي انتهت بالامبراطور منفياً إلى جزيرة (سانت هيلانه) بعد أن أفلس فرنسا وأكل لحمها في حروبه التي لم تعرف الحدود.
وأمريكا اليوم لديها من فوائض القوة الكثير ولكنها مفلسة سياسياً في عهد جورج دبليو بوش الذي تقمص دور (دون كيشوت) في محاربة طواحين الهواء، وأراد بحماقة أن يدخل التاريخ من بوابتي العراق وأفغانستان ونافذتي لبنان وفلسطين فواجه عاصفة تشبه تلك التي واجهتها طائرات الانقاذ الأمريكية في الصحراء الإيرانية وهي في طريقها لفك أسرى السفارة الأمريكية في طهران في بداية الثورة، فأصبحت بين غمضة عين وانتباهتها بحاجة الى من ينقذها بعد أن مزقتها العاصفة كل ممزق.
إن مثله مثل من يرتاد الربع الخالي حيث الرمال المتحركة التي يقال إنها قادرة على ابتلاع قافلة من الجمال بأحمالها وهو يظن أنه يجوب ال (هايد بارك) في لندن.
ما علينا فقد طرح الداهية (كيسنجر) مؤخراً عبر ال (هيرالد تريبيون) خطة عمل للخروج بشرف من العراق، على الرغم من أنه لم يعد ذلك الشرف الرفيع مع إن الدم يشخب من أمامه ووراءه وعن يمين وشمال، فقد اشمأطّت الحرب ولم تعد تصلح لشمّ أو تقبيل، وفي رأيه الاَن أن الحرب قد وصلت إلى الذروة المفروضة عليها وخيبت أمل الرأي العام الأمريكي ومعه الكونجرس الذي تزداد مطالبته بالخلاص من المستنقع في وقت يقترب فيه موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية وهو في العادة وقت شديد الحساسية لكلا الحزبين.
ولا يرى الداهية أي مصلحة في انسحاب غير مرتب لأن ذلك لن يؤدي الى نهاية الحرب ولكن انتقالها إلى مناطق اخرى مثل لبنان، مشيراً إلى أن انكشاف العجز الأمريكي سيزيد التشدد الأصولي من اندونيسيا والهند حتى ضواحي العواصم الأوروبية.
وخلص إلى المطالبة بمظلة دولية لأنه (لا النظام الدولي أو الرأي العام الأمريكي سيقبل توافر ترتيبات دائمة خاصة باستمرار سيطرة أمريكا وحدها على مقاليد الأمور في منطقة متفجرة كالشرق الاوسط). . وهذا كلام عاقل يناقض جنون الإدارة وهرطقات المحافظين الجدد في أمريكا ولا نقول الاّ: شيء لله يا كيسنجر. . ! !