منذ ماقبل التدوين حتّى اليوم والغد يظل الشعر هاجس العربي يرفّ على فؤاده رفيف الأقحوانة، ويخفق بكبده كتلك القطاة التي علقت بجناحها، ولولا نفحات «وادي عبقر» لما عرف بناة العلى من أين تؤتى المكارم؟، ولاعرف العشاق أكسير السهر، ومناجاة القمر، ومقاربة الخطر، وكيف تقتل العيون النجل بالحَوَر؟ يلمع الشعر كسيف البرق ويقصف كالرعد ثم يتنزل كالمطر لتحيا به الأرض،والزرع والضرع .. ومن لم يرتشف من دنانه ويسكر ببيانه، ويستظل بأفنانه فقد حرم من تجليات الجمال في فتنتها الساحرة وعنفوانها المتمرد، وسكينتها الرقراقة، ومهما حاز من اشياء اخرى في هذه الدنيا فإنها تلامسه ولاتؤانسه تستضيف واحات الشعر الاحلام الراحلة والأحزان المقيمة والأكباد الحرى والقلوب المحطمة مثل الزجاجة كسرها لايجبر» في تلك الواحات تجد متاحف لامثيل لها في العواصم ومخلوقات نورانية تمشي مشيتها وتنيه تيها، واقماراً وكواكب ونجوماً تقتتل المدارات لتقربها عينها.
حوافر خيول الشعراء ترن في آذان الناس عبر العصور وهي مكرة مفرة أو مدلجة في الليل تعبر بديارليلى، ومضارب بثينه، وكوى هند، وصبا لبنى.
هذه الاسماء تلمع كعروس من «الزّنج عليها قلائد من جمانً» لأن صياغة الشعر من عظماء صناع مجوهرات الجمال قد اذابوا في وشيها وصليل خلاها ارواحهم وانوار مآقيهم فجعلوا منها تلك الفراشات الذهبية التي عبرت الزمن لتفرحنا وتبكينا كالأطفال قبل أن ترحل الى زمنٍ آخر لم نعشه بعد.. ودائع البنوك تتبخر وتنفد ولكن ودائع الشعر تزداد ثراء كلما تعتقت يحمل الشعر باللغة ثم يلدها بكراً يحيط بالأرض وهو لم يبارح يأتي بالبحر اليك في قلب الصحراء فاذا بالموج جليسك وان ابتليت بأنواع الهموم:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا ايها الليل الطويل الا انجلي
بصبحٍٍ وما الإصباح منك بأمثل
كم من اللّيالي عبرت منذ وفاة « الضليل» ولكن ليلته هي التي بقيت في الذاكرة وأمَّحى ماسواها كانت ليلة مؤطرة بموسيقى البحر الرتيبة وبكسل الوقت ، وماكان لغير الشاعر ان يرسم هذه اللوحة ويتحدى بها الخلود.
استاذ جامعي روى ان طلبته المتعلقين بالثقافة الوافدة من لغات اخرى ومخيلات مختلفة قد سحروا بأبيات لأبي الطيب لكأنما عبرت عن قلقهم المعاصر وازمتهم الوجودية:
ياساقيي أخمر في كؤوسكما
أم في كؤوسكماهمٌ ُ وتسهيد
أصخرة أنا؟ مالي لاتحركني
هذي المدام ولاهذي الأغاريد
اذا أردت كميت اللون صافيةً
وجدتهےا وحبيب القلب مفقود
الأجيال الجديدة لاتتلقى جرعات شافية من الشعر النقي وانما بعض السقيم من صناعة النظَّامين الذين اطبقوا على التعليم ، فهل من متنفس خارج الكتاب المدرسي.