في المستشفى..

أحلم بيوم يجد فيه الصحافيون مادتهم الكتابية في كل مكان ، في السوق ، في المزرعة، في المطعم، في الطائرة التي تمخر الأجواء ، وفي تشكيلات الطبيعة من جبال وبحار ومروج خضراء وصحراء تبدو قاحلة وهي مملوءة بالأسرار ، وفي وجوه الناس ومكونات قلوبهم وحكاياهم ، في الماضي الذي رحل وأبقى عبيره ، وما أثقل ضميره، وفي الحاضر الذي يموج بمشاعر السخط والرضا ، ومكونات الجدب والعطاء، ذلك أن الحياة هي كتاب مفتوح ومرموز يراه كل الناس ويقرأه قليلون، ويفهمه أقل ويعنى بتسجيله أقل القليل منهم، ومواقف الكتّاب على اختلاف اتجاهاتهم هي الرحيل باتجاه الحياة كأنهم على بساط الريح يشاهدون من حالق، ذلك أنني لا أقصد المشتغلين بالعمل الصحفي حصرا ، وكان الجاحظ الذي كان يعده استاذنا في الصحافة عبداللطيف حمزة أول صحفي عربي يستحق التسمية حيث كانت الحياة والناس مادته رغم أنه أحد كبراء المعتزلة المرجعيين ، فمن كتابه البخلاء إلى كتابه الحيوان الذي أبدع فيه أيما إبداع، معرجا على المكدين (الشحاتين) ومعلمي الأطفال وأصحاب المهن وله في كل ذلك نظرات عميقة وقفشات مضحكة بأسلوب مفهوم للجميع ، وهو قامة قد تطاول قامة ابن خلدون.

ما علينا .. فقد كنت اعتذرت عن كتابة مقالي لهذا اليوم حين حملت إلى المستشفى بالإسعاف بسبب جلطة هدمتني أرضا كالبيت العتيق المتداعي ، وقد سقطت في مكاني لا استطيع العودة إلى الغرفة ولا الذهاب إلى الحمام ، والعرق يغمرني ، وفي صدري وذراعي ما يشبه الحريق، وفي الرأس صداع يجتاحه كالاعصار ، عموما تلاحقني الأولاد الذين كانوا يتفرجون على التلفزيون في الردهة الخارجية ، وما هي سوى سبع دقائق من الاتصال حتى كانت (الامبولانس) بأبواقها وأنوارها تلعلع بجانب العمارة وتجمّع الكثير من السكان الفضوليين ، وقد أجرى المنقذون فحوصاتهم الأولية من تخطيط للقلب وقياس للنبض واسئلة يتلقون الإجابات عليها ونحن نسير في الشارع لكي يوفروا زمنا لقسم الطوارئ ، وما إن وصلت (الإسعاف) حتى كان الجميع في انتظارها، وكل شيء مهيأ ، فريق عمل يثير الإعجاب في مستشفى الشيخ خليفة في أبوظبي ، وكانت النتيجة السريعة نظرا لتوفر الخبراء والأجهزة والاخلاص أن الشريان الرئيسي (الأبهر مغلق) بنسبة 99% وابن عمه (التاجي) بنسبة 85% وقد جرى استدعاء طبيب القسطرة نزار البستاني من منزله فجاء على وجه السرعة ، وهو شاب مرح شديد التفاؤل لا يشعر مريضه أنه في خطر مثلما يتعالم بعض الأطباء الذين تعميهم الشجرة عن رؤية الغابة ويفرحون حين يرون وجه المريض يربدّ وهو كظيم.

المهم يا سيدي أجرى الدكتور القسطرة للأبهر كأنه يلعب كرة الريشة برشاقة ومهارة وما هي إلا ساعة من الزمن حتى كان يودعني وهو يقول: نلتقي يوم الخميس للمنازلة مع التاجي ، وستكون ألطف من المنازلة مع الأبهر فهو منسد بنسبة 85% ليس إلا .. يا خوفي ويا لنا من محظوظين في عصرنا هذا بتقدم علوم الطب وصناعة أجهزته، وقد حمدت في نفسي لإدارة المستشفى – الصرح الذي بدا كمدينة جامعية جهودها التي لا تخطئها العين ، ذلك أن الأجواء السائدة تعاونية للغاية وقد وجدت مصداق ذلك لدى الممرضات ملائكة الرحمة اللواتي أحطن بي وحنون عليّ حنو المرضعات على الفطيم – كما يقول الشاعر العربي:

وحمدا لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وكل واحد منا سيكمل الخطى التي كتبت له طال الزمن أم قصر

مشيناها خطى كتبت علينا

ومن كتبت عليه خطى مشاها.

 ————————————————

في المستشفى (2)

 

كتبهافضل النقيب ، في 29 يونيو 2007 الساعة: 06:00 ص

 

الصحة تاجٌ على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، حكمة قالوها من قديم الزمان، على أساس أن قيمة النعمة لا تُعرف الإ إذا انثلمت أو فُقدت، ولكن، ما أكثر العِبر وما أقل المعتبرين، فالناس في لهاثهم وراء العيش والجاه والمال والغلبة يبيعون الغالي بالرخيص ويستبدلون الذي هو أعلى بما هو أدنى، علماً أن ضرورات الحياة الإنسانية من مأكل ومشرب ومنام متاحة وموفورة وتكفي الجميع كما هو الحال بالنسبة لطيور السماء تغدو خِماصاً وتأتي بطاناً غير قلقة أو خائفة على رزق الغد، وقد أدرك الزهاد هذه الحقائق الجوهرية فعافوا دنيا الناس وتحصنوا بأشعاف الجبال وقالوا ربنا اجعل رزقنا كفاف يومنا حتى صرح قائلهم: لو عرف الملوك بما نحن عليه من نعيم لقاتلونا عليه بالسيوف.. وأين مملكة الأرض من مملكة السماء!!

في مستشفى الشيخ خليفة بن زايد الذي بني على الطراز المغربي لكأنك في فاس أو مكناس من بلاد المغرب الأقصى ممّا يذكرك بذلك الزاهد الذي سارت بذكره الرهبان:مسيكين من أرض مكناس.. وسط الأسواق يغني ويش عليَّ من الناس.. ويش على الناس مني.

في هذا المستشفى خليط عالمي من الخبرات والكوادر، ولك أن تتخيل أقوام الهند والسند وآسيا الوسطى وعرب الغبراء والخضراء والقادمين من كندا على أطراف القارة القطبية البيضاء، والاوربيين من شرق وغرب القارة، إضافة إلى الأمريكيين، هنا لا فرق بين عربي وعجميٍّ إلا بالكفاءة والانضباط وحسن الأدب والتخلُّق والتقوى.

هنا المريض هو الملك المتوَّج، والحاشية والحشم والخدم جميعهم في خدمته وتحت إمرته، حتى إنه ليتساءل كيف غفل عن مملكته هذه، وكم هما مشتاقان لبعضهما، لولا أنهما لا يقربهما من بعضهما إلا المرض، أحدهما يتحمل همَّ الدنيا حتى تنقض ظهره، والثاني يمثل للأول عالم السكينة والرعاية والحنان، يأخذ بيديه ويعيد تأهيله ويبصِّره بحقائق المهم فالأهم فالأكثر أهمية.

ولكم قرأت من انتقادات حول هذا الصرح وكنت أمر من جانبه فأنظر إليه شزراً، ولكنني اليوم على ثقة من أن الهدف للنقد كان مبالغة في تطلٌّب الكمال، علما أن الكمال لله وحده، ولقد طوَّفت في أوروبا والشرق الأقصى متطلِّبا للشفاء وباحثا عن الرعاية فوجدت هذا المستشفى في الصف الأول منها، وليس من سمع كمن رأى.

يقال أن أفضل عادة أن لا تكون لك عادة، وستكتشف في المستشفى كم أنك قد أوغلت في عادات استعبدتك وجعلت حياتك مثل جمل المعصرة يدور حول نفسه، فمنذ زمن لم أشهد انبثاق الفجر إلا من غرفتي هنا وقد راقبتها طورا طورا، من ولادتها الخجولة حتى استوائها وكان في ذلك من الشِّفاء ما فيه، فالعودة إلى الطبيعة تشبه العودة إلى حضن الأم وحنانها وقهوتها.. أن تفطر في السادسة صباحا وتتغدى في الثانية عشرة منتصف النهار وتتعشى في السادسة أول المغرب هو عودة إلى الينابيع، فكل الأحياء عدانا أو ما شذّ منها يلتزم هذا النظام الكوني.

لقد جلبت إلينا المدن وأضواؤها الساطعة السهر المدمر، كما جلبت الينا التجمعات السابحة في أدخنة التبغ السامة أمراض الصدر والعينين والسرطانات، أما المستشفيات المهملة غير المعتنى بها فإنها مرضٌ على مرضٍ، حتى أطباؤها يمرضون فيها، فينطبق عليهم المثل “طبيب يداوي الناس وهو مريض” والحليم تكفيه الإشارة.

الحركة تدبُّ والعيون الذكية تفحص كل شيء، ولا عبرة بتعدد الأجناس، فالجميع يقرأ في كتب واحدة ويتحدثون لغة واحدة هي لغة التطبيب والتمريض.. وهي لغة إنسانية لا حدود لها.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s