شخصيات في مرآة الأستاذ

يرسم الأستاذ/أحمد محمد نعمان في مذكراته ملامح شخصيات غدر بها الزمن وأهال عليها النسيان الذي يمحو أوج النبل وفضائل الشجاعة وسخاء النفوس الكبيرة المتجاوزة لواقعها الناضب من الحياة وليس النابض بها..

وقد كان واقع اليمن في النصف الأول من القرن العشرين كذلك حتى ليبدو حلم التغيير أكثر تلاشياً من حلم ابليس في الجنة، وهنا تتبدى عظمة الرواد الذين عبروا ذلك الظلام يواصلون السرى، ويدفعون الثمن نيابة عن أجيال لم تولد بعد.

يتحدث الأستاذ عن «جازم الحروي» التاجر الكبير والشخصية النادرة الذي قال له وللأستاذ الزبيري: «بدلاً من أن تظلوا تبعثرون أدبكم وأفكاركم في تقديس الحكام، اخرجوا نحو الشعب».

ويضيف: «فلما قلنا له: ولكن قد تعوزنا المادة، قال: أنا أرسل لكم».

هذا الرجل «جازم الحروي » بهذا القول في ذلك الزمن المكفهر يعدُّ أمة لوحده، وكان الأستاذ النعمان أميناً في نقل الصورة ، وقد اعتقل جازم بعد ذلك واتهم بإخراج الزبيري والنعمان إلى عدن فأخرب بيته وسيق على قدميه سبعة أيام وهو مقيد بالحديد للوصول إلى صنعاء من تعز.

ويعلق النعمان في مكان آخر: إن جازم أبرز يمني كان يساعد الحركة الوطنية من الداخل، بل من الممكن أن يكون اليمني الوحيد.

الأستاذ/محمد أحمد حيدرة الذي جيء به من عدن ليدرّس التاريخ والجغرافيا لسبعين تلميذاً في مسجد «ذبحان» بجانب الأستاذ النعمان الذي كان يدرّس الأناشيد، بدا كأنه قادم من كوكب آخر يهدد الحياة على الأرض ؛ لأنه كان يلبس البنطلون ويعزف على العود ويحث التلاميذ على ممارسة الرياضة البدنية، الأمر الذي أثار جنون الأستاذ النعمان القادم من زبيد – الشديدة المحافظة – والذي يتحسس طريقه ببطء وأناة ليعرف ما يجري حوله خارج مملكة الإمام، فطالب بطرده لأنه فاسق ؛ وبقاءه سيجلب كارثة على البلد وغضباً من السماء، ثم إنه زنديق فهو يقول للتلاميذ ان الأرض كروية.

وكانت النتيجة طرد الأستاذ/محمد أحمد حيدرة، الذي غيّر نشيده ، اعتزل ذكر الأغاني والغزل، المقرر من الحكومة إلى نشيد: الوطن الوطن.. يا شباب اليمن.. ما له من ثمن.. غير أرواحنا، كما صنع للنشيد لحناً مناسباً بعوده الذي كان يُنظر إليه على أنه من «آلات الشيطان».

كتبت كثيراً عن أستاذنا الصحافي المرموق صالح الدحان – أطال الله عمره – وطالما حمي الوطيس بيني وبينه في أمور كثيرة، ولكن الخلاف لا يفسد للود قضية ، فلصالح قلب أنقى من قلب طفل.

وفي مذكرات الأستاذ وجدت صاحبي في شخص أبيه عبده الدحان الذي قال عنه الثائر زيد الموشكي:

ودحان ناقشه عن أصله

فإن به نزعة من عمر

يقول الأستاذ النعمان: كان عبده الدحان صاحب مطعم في عدن، وعندما سمع بقضية الأحرار ترك المطعم وجنّد نفسه للقضية، وأخذ يسعى لتأمين حياة الواصلين منهم إلى عدن، وعندما صُفّد بالقيود التي لم يتعودها خلال سجنه معنا أخذ يلعن الإمام وأبا الإمام، فخاف السجانون من أن يجني على نفسه ويسبب لهم المشاكل فتوقوا خطره بمداراته، وقد أخرج من السجن للتخلص من لسانه.

في مرآة الأستاذ عشرات الشخصيات الدرامية المتَّقدة النفوس ، العالية التضحية والبالغة الشجاعة، ومن أراد ان يلتقي بهذه الأرواح التي تعذبت من أجلنا فسيعرف أين يجدها.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s