أمل دنقل

أمل دنقل
أمل دنقل

أسفار أمل

لم يعد هناك مذاق لأي شيء تأنسه النفس أو تطمئن إليه، تعرّى كل شيء وخلع الزهو أبوابه، وأخذت الآمال بعد حزيران تتغضن كالعجائز الشُمّط على تلال القبور، وما كان لأحد أن ينظر في عيني أحد، حتى عندما خرجنا من في ظلام الهزيمة نهيم في شوارع القاهرة نحن نبكي، لم نكن ندري ما الذي ضاع منا، أو بالأصح ماذا بقي لنا، فقد ضاع كل شيء، ولم يبق سوى وجه الله الكريم يستنقذنا أو يطلق رصاص الرحمة على الجموع.

وكان الجنود العائدون من الميدان كسارى محزونين، يودّون لم تنشق الأرض تحتهم ليختفوا، فقد أخذوا مكان الأعداء في وعي اللحظة الحارقة، أما الضبّاط فقد تبخروا بعد أن خلعوا رتبهم ومراتبهم ونياشينهم، وذهب القادة إلى قصورهم التي أصبحت سجونهم، وأوكار مؤامراتهم حيث يتبرّأ الجميع من الهزيمة، ولو أسعفتهم أدوات التزييف لقالوا أنه النصر المبين. وكان لا بد من قرابين، فكانت في الحدّ الأدنى، حتى لا يُهدم المعبد على رؤوس الجميع، وهكذا دارت العجلة قليلاً إلى اليمين، وقليلاً إلى اليسار، وانكفاء إلى الخلف قبل أن يجرها المحروقون إلى الأمام بدمائهم وأنفاسهم وبقايا الحياة فيهم، وفي “تعليق على ما حدث”، يسافر أمل دنقل في شريط من الدم بلا ذاكرة، تاركاً كل شي للعدم: “أترك كل شيء في مكانه… الكتاب والقنبلة الموقوتة… وقدح القهوة ساخناً وصيدلية المنزل، واسطوانة الغناء، والباب مفغور الفم، أترك كل شيء في مكانه، وأعبر الشوارع الضوضاء، مخلفاً خلفي زحام السوق، والنافورة الحمراء، والهياكل الصخرية المنحوتة، أخرج للصحراء، أصبح كلباً دامي المخالب، أنبش حتى أجد الجثة، حتى أقضم الموت الذي يدنّس التراب… أدس في الحفرة وجهي الشره المحموم، تصبح بوقاً مصمتاً حول فمي المنكفئ المزموم… وصارخاً في رحم الأرض… أصيح: يا بساط البلد المهزوم… لا تنسحب في تحت أقدامي، فتسقط الأشياء”.

كان أمل يحلم بأشياء لا تسقط بعد أن سقط كل شيء، ولم يعد ممكناً العودة إلى سكينة الوقت، إلى الكتاب وقدح القهوة وانتظار الذي لا يأتي، فقد أتى حزيران على المراعي جميعها بين الميلاد والموت، فأجدبت النفوس، وطاب السقوط:

أسقط واقفاً…

وخائفا.

أن يحمل الصدى ندائي للهوائيات …

فوق أسطح البيوت

أن تفشي الرمال صوتي المضيء،

صوتي المكبوت!

أبكي إلى أن يستدير الدمع في الحفرة

أبكي… إلى أن تهدأ الثورة

أبكي إلى أن ترسخ الحروف في ذاكرة التراب

عاد الرجال إلى بيوتهم وأعمالهم وقد أصبحوا غير الناس، وكان يمكن لمثل ذلك الحال أن يستولد أمة من رمادها، ولكن، كان الخوف من المولود أكبر بكثير من الحزن على المفقود، واستمرت النساء في إنجاب مخلوقات مشوّهة تستمرئ ما يقدّم إليها:

تفقر الأسواق يومين، وتعتاد على “النقد” الجديد

تشتكي الأضلاع يومين، وتعتاد على السّوط الجديد

يسكت المذياع يومين، ويعتاد على الصوت الجديد

وأنا منتظر جنب فراشك… جالسٌ أرقب في حمّى ارتعاشك

صرخة الطفل الذي يفتح عينيه… على مرأى الجنود!

كم من هزيمة كبرى يحتاج هذ الصحو المنتظر؟ “كل صباح… أفتح الصنبور في إرهاق… مغتلاً في مائه الرّقراق… فيسقط الماء على يدي دما… وعند ما أجلس للطعام مُرغماً… أبصر في دوائر الأطباق… جماجماً… جماجماً… مفغورة الأفواه والأحداق”.


بكائيات أمل

كان بعض الشعراء العرب يتنفسون الهزيمة الحزيرانية قبل أن تطبق على الأحياء والأموات، وتحوّل أرض الأحلام إلى أرضٍ يَباب، ولكنهم لم يكونوا يعرفون ما مداها وما لونها، ولا موعد قيامتها. كانوا يقيسون المجهول على المعلوم كقصاصي الأثر في الصحراء المترامية، وكانوا يجسّون بأناملهم الرقيقة وأصواتهم الجريحة التشوّه الذي لحق بروح الإنسان العربي، في خضم التسابق على الجاه المنكر، والمال الحرام، وتبختر الطواويس على جثث المفاليس في عالم افتراضي مبني من الضوضاء، وغبار الأكاذيب، والهجمات الدونكشوتية من عاصمة عربية على أخرى، فيما العدوّ لا تنام له عين، وعيناه على الجميع كعيني ذئبٍ أجرب على قطيع خرفان لا حارس له. كانت أصوات بعض الشعراء تبحث عن شيء في اللاشيء الغامض الذي يسري في باطن طبقات الأرض، وفي اللاوعي، حيث الكوابيس سيدة الموقف. أمل دنقل الشاعر العربي الإستثنائي عانى منذ وقتٍ مبكر آلام الولادة الحزيرانية التائهة، وكان يرى دمه في أطباق الحساء، على موائد النخبة المترفة.

قصدتهم في موعد العشاء

تطالعوا لي برهة، ولم يرد واحد منهم تحية المساء

وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة، في طبق الحساء

نظرت في الوعاء

هتفت: “ويحكم… دمي، هذا دمي…” فانتبهوا

لم يأبهوا!!

وظلت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة

وظلت الشفاه تلعق الدماء…

ولأمرٍ ما، لهاجس ما، لوجعٍ ما، بانتظار فاجعة ما، للهروب من وحشٍ ما، يتربص داخل الروح، ويجوس في الشرايين، ويسرق الدموع من المآقي كتب أمل دنقل في أبريل 1962 قصيدته الممهورة بفتات الروح، وكانت نبوؤة مرمية في وجه الريح الكاوية التي لا ترحم، وعنوانها (كلمات سبارتكوس الأخيرة):

معلقٌ أنا على مشانق الصباح

وجبهتي بالموت محنيّة

لأنني لم أحنها… حية

***

يا أخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين

منحدرين في نهاية المساء، في شارع الإسكندر الأكبر

لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إليّ

لأنكم معلقون جانبي… على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ

لربما إذا التقت عيونكم بالموت في عيني

يبتسم الفناء داخلي… لأنكم رفعتم رأسكم… مرّة!

ويخاطب أمل دنقل قائلاً: الغامض، قاتله الذي ينتظره ليقتله مرة ومرتين وألفاً:

يا قاتلي إني صفحت عنك… في اللحظة التي استرحت بعدها مني.

استرحت منك… لكنني أوصيك أن تشأ شنق الجميع، أن ترحم الشجر، فتقطع الجذوع كي تنصبها مشانقاً، فربما ياتي الربيع، والعام عام جوع، فلا تشم في الفروع نكهة الثمر.

هذا الخطاب إلى المجهول مرسلٌ كالرصاصة إلى المعلوم، من جميع الذين على رؤوسهم (قشاشة)، والذين يرون القذى في عيون الناس، ولا يرون الخشبة في عينهم، وقد ظل أمل ينزف ومعه الأرض والناس قبل أن تنفجر هيروشيما العرب فوق رأسه.

الأرض ما زالت، بأذنيها دم من قرطها المنزوع

قهقهة اللصوص تسوق هودجها… وتتركها بلا زاد،

تشد أصابع العطش المميت على الرمال

تضيع صرختها بحمحمة الخيول.

الأرض ملقاة على الصحراء… ظامئه،

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s