كل خميس:عبد الرحمن باجنيد..

عبدالرحمن باجنيد
عبدالرحمن باجنيد

خالست الفنان الكبير عبدالرحمن باجنيد النظر وهو يسير الهوينى أمام الموقع القديم لاذاعة عدن الذي شهد انطلاقه وتألقه وشعبيته الكبيرة مطرباً شهيراً على «يسار الوسط» في مرحلة الخمسينات والستينات، إذا سمحت لنفسي استخدام التصنيفات السياسية الأوروبية باعتبار صاحبي يحمل الجنسية الهولندية الى جانب جنسيته اليمنية .

لم يعد لمكان الاذاعة الذي كان مثل قلب ينبض بالأشواق من وجود بالنسبة للغرباء عنه،

ولكن الذين نسجوا أعصابهم بأعصابه يخاطبهم ويخاطبونه كما لو لم يبرح مكانه وتحل محله تلك العمارة الكئيبة التي عاشت تاريخاً مغايراً انتهى نهاية مأساوية فاجعة.. وبا جنيد الذي لايزال فتياً في ستيناته هو أحد البلابل التي تحلم بأغصان الشجرة الأم التي أيبسها الزمان ولكن فوح عطرها يملأ المكان.

كان يسير كمن أغمض عينيه وهو يراهن على أن حواسه جميعها تعمل لإرشاده إلى حيث يريد الوصول أنشدت للباجنيد الذي اعتمر قبعة شبابية وملابس رياضية مثل اولئك الذين يلبسون طاقية الإخفاء فيرون الناس مخاتلة دون أن تظهر رسومهم:

أمرُّ على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

ثم سألته : أتشعر أنك مثل مجنون ليلى .. قال أكثر ، قلت كيف..؟ قال: لأن قلبي مشغول بالديار ومن سكن الديارا.. قلت: وهولندا.. قال: قلب ثان لايغني عن القلب الأصلي.

عبد الرحمن صالح باجنيد اسم يستعصي على ممحاة الزمن الغشوم وحين أعطاني تسجيلات اغانيه عادت عدن الخمسينات والستينات تتوهج في ذاكرتي وفي عيني فيما بحر التواهي الذي لم يتغير يصغي الى تلك الانغام العذبة: طير من وادي تبن، شن المطر على صبر وشمسان، بانجناه، من طرفك الأحور، قمري بناء، إذكريني كلما هب النسيم ، لاوين أنا لاوين ، ياقمري الوادي ، اعطيني يا طير من ريشك جناح.

لقد كتب لهذا الفنان الكبير أساطين شعراء الأغاني في عدن ولحج: لطفي جعفر أمان ،محمد سعيد جرادة، الأمير صالح مهدي، عبد الله هادي سبيت، أحمد شريف الرفاعي، سعيد الشيباني، فريد بركات، ابو بكر المعنى، ومحسن بريك، وصديقي ايضاً موهوب في الشعر والغناء والتلحين ، وقد كتب لنفسه: قمري بنا، يا هوا بلادي، غني لنا غني، ألف مبروك، ولاغرو فالرجل عاش الفن طفلاً واجاد العزف على مختلف الآلات وكان أحد أركان فرقة “أحمد قاسم ” الموسيقية، وفي الاذاعة كان معداً مرموقاً للبرامج الفنية والسهرات إلى جانب عمله في تقديم نشرات الأخبار وتقديم الترجمات الفورية عن الانجليزية في بداية عهد المسلسلات التلفزيونية وقد شارك في الحفلات العامة.

وحين قلت في البداية إنه على «يسار الوسط» فقد عنيت بذلك الكلاسيكيين الكبار على اليمين من مؤدي الغناء الصنعاني واليافعي والحضرمي التقليدي والمدرسة اللحجية القومندانية في الوسط وقامات الندوة العدنية مثل خليل محمد خليل، سالم أحمد بامدهف على اليسار، فيما المرشدي وبن سعد على يمين الوسط، وصاحبنا ومعه مجموعة من شباب تلك الأيام المتطلعين كانوا أكثر ميلاً الى التجديد مع الحفاظ على التطريب فصنفتهم يسار الوسط وما كان أدق الاستاذ نجيب سعيد باوزير الدي شبه موقع باجنيد في الأغنية اليمنية بموقع الفنان الكبير محمد فوزي في الأغنية المصرية، حين اشتق طريقاً وسط العمالقة الذين كانوا يتهادون كالسفن الضخمة العابرة فيما باجنيد ومحمد فوزي كالزوارق السريعة الحركة القادرة على الالتفاف حيثما ومتى تشاء (التشبية من عندي وليس لباوزير – مع الإعتذار).

يتمتع الباجنيد بحس مرهف في نطق اللغة عامية وفصحى، ولا اظن فناناً يستحق التسمية إذا ما عجز عن التعامل مع اللغة ولاكها كما يلوك القات، وفي الاداء يأسرك باجنيد بذلك الغناء الذي عبر عنه احدهم بالقول أنه يصعد من اطراف اصابع القدمين ثم يمر بالقلب قبل ان يصل الى الحنجرة حاراً متماسكاً ينقدف في قلب المستمع.. تحية للفنان اليمني الكبير عبد الرحمن باجنيد الذي حدثني على مدى ساعتين عن الآخرين ولم يتحدث عن نفسه ابداً.

اترك تعليقًا