ربما كان من حسن حظّ اليمن ان آثارها المردومة لا تزال في بواطن الأرض لم تمسسها يد، ولم يصل إلى آذانها قرع معول، وإلا لكانت النسور قد تناوشتها لحماً وعظماً ولم تترك سوى الحفر، ولقد ظلت آثار مصر – التي تحوي نصف كنوز الدنيا في – طي الخفاء، حتى إن الأهرامات بعظمتها كانت شبه مدفونة في الرمال، كما هو حال آثار سبأ وبلقيس في مأرب، حتى قيّض الله لآثار مصر علماء حقيقيين منذورين للتاريخ والمجد، وبعثات وراءها موارد وصبر لا ينفد، فتفتقت عن أسرارها وأنوارها، لتبهر البشرية جمعاء، وأتذكر أنني مررت بمدينة إنجليزية صغيرة “ايليزبروي”، وهي أقل من عاصمة ريفية، وأكبر من قرية، فوجدت في متحفها قسماً للمصريّات، وكان معلمو المدارس يأتون بالأطفال ليروا أبجديات الحضارة وعظمة الإنجاز وبراعة الإحساس في عصور لم تكن أوروبا فيها شيئاً مذكورا، وبالتأكيد فإن مثل هذا القسم – المتخفي المقلد لأنه لا يحوي آثاراً أصلية – مستنسخ في مختلف أنحاء أوروبا، أما المتاحف العظمى مثل اللوفر في باريس والمتحف البريطاني ومتحف برلين وغيرها فقد كان نصيبها من آثار مصر الحقيقية عظيماً، وقد عملت هذه المتاحف على إبراز الحضارة الفرعونية لملايين الناس، ولم يكن في ذلك أية خسارة كما يتصوّر بعض المتحمسين الفارغين، لأن هنالك فرق كبير بين لصوص الآثار الذين يعملون في الظلام ومتاحف الحضارات التي تعمل في النور موثقة، فلأن يكون العالم متحفك خيرٌ من أن تكون وحيداً في زاوية قد لا يراها أحد، وفي هذه الإثارة لملايين من العقول دعوة لزيارة البلد المعني، والسياحة فيه والتعرف إلى حاضره ، وأظن أن مصر قد جنت من آثارها أضعاف ما خسره الفراعنة، أي أنهم كانوا يستثمرون للمستقبل ولأجيال لم تولد، ومرة قرأت تصريحاً لرئيس وزراء التشيك حول الخلل في ميزان التجارة لمصلحة ألمانيا، فقال بثقة أنه سيُصحَّح، وحين سُؤل كيف، قال: “وماذا تفعل (براغ) عاصمة التشيك والتحفة المعمارية في وسط أوروبا”. ولو قارنت براغ بصنعاء القديمة فسأقول أنهما تقفان نداً لند، وإن كانت صنعاء أعرق في الزمان، ويتدفق على براغ ملايين السياح، ينحدرون من ألمانيا كانحدار السيول، ومن ورائهم يعيش ملايين التشيك، وأتوقع أن يتدفق على اليمن – الذي يعتبر بكامله منطقة آثارية حيّة – مثل هؤلاء من عرب الجزيرة وغيرهم حين يرتفع الوعي، وتفعّل أصول الضيافة، وتنتظم البرامج، ويراعى ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فالسياحة ليست كتيبات وصور و”زعبقة” في الفاضي والمليان، وإنما هي عمل دؤوب على الأرض، وتكامل بين المركز والمحليات، واهتمام بالتفاصيل، وحسب المثل اليمني: “إذا أردت المائة فادفع الخمسين”، فإن تذهب في صيهود رملة مأرب فلا تجد مظلة أو بائع ماء أو حمام، فذلك هو العذاب، وهو التقصير البشري الذي لا عذر له ولا عذر معه، و “ربّ عذر أقبح من ذنب”.