لم يدرك الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أنه كان يلعب بالنار حين غزا العراق، وبدا في اندفاعه وتهوّره واستهانته بالعواقب مثل طفل يُشعل أعواد الثقاب وسط غابة من براميل البنزين التي تُشتم رائحة شرارات الكبريت المتطايرة منها كما يَشتمّ سكان جزيرة العرب روائح البخور الكمبودي الذي يزيد قيمة الكيلو الفاخر منه على عشرين ألف دولار. ويوم أمس الأول تنبأ الرئيس الذي استفاق بعد أن بلغ السيل الزّبى بصيفٍ ملتهب للقوات الأميركية في العراق، علماً أنه ما من صيف ولا شتاء ولا ربيع ولا خريف منذ الغزو مرّ على تلك القوات – التي أصبحت تُصطاد كالبط الأعرج – إلا وكان ملتهباً، وبذلك بدا الرئيس كمن لا يعد يعرف أيذهب إلى الأمام فيغرق، أم يتراجع إلى الخلف فيصبح أضحوكة الأنصار قبل المعارضين، ذلك أن شر البلية ما يُضحك.
وقد أخذ المحافظون الجدد الذين دفعوا به إلى هذا الأتون يتبرّأون منه بحجة أنه لم يحسن إدارة الحرب، وينطبق عليهم في موقفهم هذا ما ينطبق على الفئران التي تكون أول من يقفز من السفينة الغارقة، كما ينطبق عليه ما جسّده الإسباني أبو الرواية العالمية (سرفانتس) في تمثيله البديع لشخصية (دونكيشوت) الذي كان ينقضّ بحصانه الهزيل وسيفه المثلّم على طواحين الهواء ظناً منه أنها جحافل الأعداء، وإذا كان (سرفانتس) قد نعى في رائعته عصر الفروسية المنقرض وقيمه النبيلة التي أصبحت مثار سخرية معاصريه الذين نفضوا غبار الإقطاع عن كواهلهم، وأخذوا في التفتيش عن قيم جديدة في عصور التحول إلى الرأسمالية وبزوغ الكيانات القومية، فإن المؤلف الأميركي جورج دبليو بوش سيؤلف رائعة الثور المندفع المليء بالعافية، والذي يعدو ليضرب بقرنيه الفولاذيين الصخور الصماء التي تتلقاه بما يستحقه من صلابة، ويتحول الفولاذ بين أنيابها إلى عجينة تمر من سواد العراق، موطن أشرف الشجر:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
|
وهكذا… يجد الرئيس نفسه كمن يخرج من حفرة ليقع في بئر، فإذا خرج منها مجرّحاً سعى إلى مستنقع، حتى أصبح يبحث عن صداقة أعدائه، كالأعمى التائه الذي يؤشر بعصاه ذات اليمين وذات الشمال، لعل يداً تمتد إليه وتهديه سواء السبيل. ومن غشامة السياسة ظن الرئيس أن الأيدي التي امتدت إليه من الديمقراطيين هي مجرد مكايدات حزبية لتشييع رئيس جمهوري وقع في شر أعماله إلى المكان الذي يستحقه في التاريخ الذي لا يحترم سوى المُحاربين المنتصرين، وإذا كان الرئيس يعرف أن المرء حيث يضع نفسه فإن عليه أن يتقبل قدره بعد أن عبثت بتقديراته الأقدار. “وتقدرون فتضحك الأقدار”.