صُيوف لبنان الملتهبة

أقبل الصيف اللبناني، مَعقَد الأرزاق، وغيث الفقراء، وصلة الأرض بالسماء، بعد أن ضاع الصيف السابق بين طعن القنا وخفق البنود، وقال الناس لبعضهم البعض: “ما فات فات، وما هو آتٍ آت”، ولكن حسابات البيدر لا تطابق بالضرورة حسابات الحقل، وهذا ما ينبئ به الصيف اللبناني الحالي الملتهب، فمن حيث لا يحتسب أحدٌ تفجرت الحرب المحدودة حتى الآن، علماً أن معظم النار من مُستصغر الشرر، ولا أحد يدري من أين وإلى أين، ومع ذلك فالجميع يسيرون، فلا بد مما ليس منه بدّ:

مشيناها  خُطىً  كُتبت علينا
ومن كُتبت عليه خطاً مشاها

فتح الإسلام، تفريخ من تفريخ، إنشقت من فتح الإنتفاضة، التي انشقّت من فتح ياسر عرفات، وقد مضى عرفات القائد الرمز إلى رحاب ربه، ولم تبق سوى صوره على الجدران، ولكن الجراح لا تزال تنزف، وهناك من يحاول أن يأسوها لتندمل، وهناك من يحاول الضغط عليها لتنفجر، ولبنان المجرّح من رأسه إلى قدميه عليه أن يتعايش مُجبراً مع خلافات نفسه، واحتدامات جواره، وحَنَقِ ضيوفه، ومطالب المجتمع الدولي، وتحسّبات الاعتداءات الإسرائيلية التي تترقب الصيف على طريقة “إذا ضربت فأوجع”، ولا أحد يريد أن يُفلت لبنان، علماً أن الجميع على صفيح ساخن، ذلك أن العقل الوطني والإنساني المُبصر قد استقال منذ زمنٍ طويل، مما يذكرني بتلك النكتة عن محكومَينِ بالإعدام متعاديين، سُئل أوّلهما عن أمنيته الأخيرة قبل الموت فقال: “أريد أن أرى أمّي”، فلما سُئل الثاني عن أميته قال: “أمنيتي الأخيرة أن لا يرى صاحبي أمّه”، وهذا ما يُعرف بالفجور في الخلاف، وهو بعض ما يعيشه لبنان، الذي هجر التنوير إلى الدياجير، وترى بعض أبناءه يفضّلون الموت على الحياة، على أن لا يتنازلوا قيد أنملة لإخوانهم، علماً أنهم قد تنازلوا لأعداءهم، ولم يجدوا في ذلك غضاضة أو مذلّة، فهل هناك فجورٌ أعظم؟!

ولأن استمرار هذا الحال من المُحال، فإن لبنان المُحتدم بالضغط – وهو لا يدري على أي جانبيه يميل – سينفجر ذات صيف أو شتاء أو ربيع أو خريف، ولا يهم التوقيت، فكله عند العرب صابون، وسيحرق من فيه ومن حواليه، ومن يمدّون أصابعهم لتغذية الحريق، لأنه حالياً شوكة الميزان، فإذا تهشّم اختلّت جميع الموازين، وانتهت حروب الوساطات لتبدأ حروب المواجهات، ويبدو أن اللبنانيين قد تقمّصوا نفسية “أيدي سبأ” الذين تفرّقوا {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا}، فهجرة اللبنانيين قائمة على قدم وساق عبر هذه الحروب المتصلة منذ عام 1974، ولا يحدّ منها أو يُبطؤها سوى انغلاق أكثر المهاجر على نفسها، علماً أن من يهاجرون بالدرجة الأولى هم الصّفوة في ذلك البلد الذي وصل ذات يوم إلى مشارف أرقى الدول الأوربية في العلم والكفاءة والإبداع:

لبنان  ما  عصفت بك الأهواءُ
واستأسدت  في طُهرك الأعداء
إلا   وقد   آخيت   كل   مذلّهٍ
بدماك  تحقن  صفوها iiالأدواءُ
فانهض رعاك الله نهضة ماجدٍ
ليس  الجميل  يحوكه  iiالغرباء

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s