عندما تنسى الأمة العربية والأمم الأفريقية قواعد لعبة الأمم فإنهم يغامرون بمصائرهم وبثرواتهم وبمستقبل أجيالهم على سنابك خيل الأمم المتوثبة القادمة من الغرب ومن الشرق ومن الشمال ومن الجنوب بحثاً عن مجالات حيوية ومصادر للطاقة، وكلما كان الثمن مجاناً أو أقرب إلى المجانبة كان ذلك هو الدليل الأكيد على أن المستهدفين في أفريقيا وغرب آسيا يغطّون في نوم حضاري عميق، وإن أوهموا بغير ذلك كالنائم الذي يصرخ في الكوابيس وما هو بيقظ أبداً.
ويتحمل اعرب الجزء الأكبر من مسؤولية الغياب عن أفريقيا وتركها لمصيرها وعذرهم الذي هو أقبح من الذنب أنهم غابوا أنفسهم فأحرى أن يغيبوا عن غيرهم، وقد كان غيابهم عن أنفسهم مأساوياً حقاً، إذ لم يكتفوا بإباحة ذواتهم لمستعمريهم المباشرين وغير المباشرين، السابقين واللاحقين، أو التحالف معهم في أحلاف غير متكافئة تعتمد مبدأ التابع والمتبوع، واليد العليا واليد السفلى، وإنما أخذوا يقتلون أنفسهم بأنفسهم، ويغزون مع الغازين دون أن يحصلوا على نصءب من الغنائم الأخوية، وإنما يكلفون بعد ذلك بتسديد فواتير الغزاة الأصليين، تحت حجة أن ذلك كان حماية لهم، وهذا حديث يطول لو فتحنا كتابه لاستغرقنا الدهر فأصبحنا كأهل بيزنطة يتحاورون حول البيضة والدجاجة وأيهما أسبق من الآخر فيما مهاجموهم يتسوّرون أسوار مدينتهم، وقد ذهبوا مثلاً في التاريخ على إساءة ترتيب الأولويات بحيث تأتي النتائج ساحقة ماحقة لا تبقي بيضة ولا دجاجة ولا سوراً ولا مدينة، ومن تلك النقطة الخاطئة يبدأ الدخول في الثقب الأسود للتاريخ الذي يكون الداخل إليه مفقود والخارج النادر منه مولود.
أما عن إخواننا الأفارقة الأقرب إلينا من حبل الوريد فحدّث ولا حرج عن ليلهم الذي أرخى عليهم سدوله ليبتلي، حتى أصبحوا أفقر العالمين، وهم في أرض من أغنى أرض الله:
كاعليس في البيدا يقتلها الظما=والماء فوق ظهورها محمول
وقد مرت العلاقات العربية الأفريقية بمرحتلين في التاريخ الحديث: الأولى إبان الحقبة الناصرية، وكانت العلاقات شديدة العاطفية حباً وكرهاً من كل من موقعه ومصالحه وعلاقاته، وقد خلت فيها الأيدي الخارجية بالإنتصار لطرف على طرف وبالتحريض، بل وبتزوير التاريخ لتنشئة أجيال أفريقية لما تزل صفحاتها بيضاء على كره العرب، وما كان لعلاقة لم تبن على المصالح وإنما على العواطف أ تزدهر وتؤتي ثمارها، ولذلك فقد انطفأت آخر ذبائلها مع هزية 1967 بين العرب وإسرائيل، قد خلت العلاقات مع أفريقيا في مرحلتها الثانية وهي مرحلة اللامبالاة وكأن الجميع لا يجلسون إلى ذات الصحن الذي يأكلون منه وهو الجوار الجغرافي المتناسج والمتواشج والمطرز بالثقافة وبالإمتداد الإسلامي في كل جنبات القارة، مع سواد العرب في شمال أفريقيا بكامله وفي شرقها بعرض البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، وهي علاقة لا فكاك منها، فالمرء يستطيع أن يغير لسانه أو لباسه الوطني أو نشيده القومي ولكنه لا يستطيع استبدال جواره، ومن هنا تجيء الآن المرحلة الثالثة: التي تتميز بالندية والبحث عن المصالح المشتركة والعقلانية في الحوار، وتشريع آداب الإختلاف وحدوده وآفاق التعاون التي لا حدود لها، وفي تقديري إن أعمال المؤتمر الثاني لراطبة مجالس الشيوخ والشورى والمجلاس المماثلة في أفريقيا والعالم العربي والذي افتتحه الأخ عبدالعزيز عبدالغني رئيس مجلس الشورى اليمني، رئيس الرابطة هو أحد المؤشرات البارزة على اليقظة العربية الأفريقية، وأول الغيث قطرٌ ثم ينهمل.