أمس الأول (الإثنين) احتفلت البشرية بـ (اليوم العالمي للكتاب وحقوق النشر)، وأمس جرت الإحتفالات السابعة عشرة بعد المائة بعيد العمال العالمي، وبين المناسبتين وشائج عميقة وروابط متينة بعضها واضح مرئي للعيان وبعضها خفي يحتاج إلى تبيان.
فالعمل جوهر التطوّر الحاضري، والعامل في أي موقع من مواقع العمل المنتج هو حامل المشعل في الحركة الدائبة للحياة إلى الأمام، إلى الأمام دوماً، وإن تعثرت المسيرة هنا أو هناك، أو في هذه الفترة أو تلك المرحلة قليلاً، فإنما لتستأنف الإندفاع كجلمود صخر حطه السيل من عل، وهذا بعكس القائلين من الماضويين المجترّين لما تلقنوا دون إعمالٍ لعقولهم أو تفعيل لأبصارهم وبصيراتهم من أن الحياة قد وصلت ذروتها في عصر مضى، ثم مضت في الإنحطاط وهي الآن تقارب نقطة الصفر، التي ليس بعدها سوى القيامة، ولو أرهفوا الإنصات قليلاً فاستمعوا ووعوا لتبينوها قيامة الإنسانية باتجاه مستقبل أفضل وحياة أرقى وعمل أتقن وتقارب وتواصل حضاري أنقى، فهذه إرادة الله سبحان وتعالى في الكون تقرّب البشرية من بعضها البعض بالعلم والعمل والتلاقح كما في الطبيعة، وما النقاء المطلق الذي يدّعيه مدعو الإحاطات الشمولية بكل ما في الأرض وما عليها وما في السماوات التي لا يردها إلا فصل من فصول العنصرية البغيضة التي عانت منها البشرية عبر تاريخها الطويل يشعلها الجهلاء ويعانيها العاملون والعلماء، وتدفع ثمنها الحياة السويّة، وقصة العمل في هذا الخضم بالغة العظمة، عظيمة التعقيد، فهي تلخيص للحياة بأسرها: علاقة الحاكم بالمحكوم، والأثرياء بالفقراء، والموارد بالإستنزاف، وتقسيم موارد العيش بالعدالة، والإحتفاظ بفائض للتنمية والسنوات العجاف، فما من شعب في هذه الدنيا اختصّ بالسمان ولم يجرّب العجاف، وتلك الأيام نداولها بين الناس، ولذلك فالتقدم فرض كفاية قد ينهض به شعب أو عدة شعوب كما هو الحال في عصرنا ليعمّ خيره على البشرية بما فيها تلك التي تغطّ في سبات عميق، وحين تبدأ في فرك عيونها وتبيّن دبيب الحياة خارج أسوارها، وتعترف دون مكابرة بأنها خارج الركب في متناول الضباع والوحوش فإنها عندئذ ستعود إلى حلبة الأوائل لا بالأحلام والشعوذة واستحضار الجن، وإنما بالعمل الحق وبالعدالة التي تؤمن للعاملين العيش الشريف والمسكن النظيف والراحة المطلوبة لتجديد الطاقات الناضبة.
ومن العمل إلى الكتاب، وهو في جوهرة أعلى درجات إبداع العمل، منه يأتي وإليه يعود، وفي مسيرته بين اليد والعقل يعيد صياغة الإنسان عبر العصور وفي مختلف الحضارات سواء أكان مكتوباً أم مرئياً أم مسموعاً أم شفاهياً يحمله نهر الحياة، وحين اكتشفت الإنسانية الحرف كمعادل للتجربة بدأت التدوين، ومن التدوين أشرقت شمس المعرفة ليستوي عرش الإنسان على سائر المخلوقات التي أوكلت إليه تدوينها أيضاً، وحتى الجمادات وما تحتوي أصبحت أمانة في عنق التدوين الإنساني لتتكامل الحياة على الأرض وفي السماء، وتغتني كل يوم بجديد، وهنا يتبدّى فضل العلماء على من سواهم {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}، ولطالما فهمت هذه الآية الكريمة لدى الكثيرين من العامة وأنصاف المتعلمين على عكس معناها بسبب إغفالهم للتقديم والتأخير، وغفلتهم عن الكليّات التي يُحتكم إليها في تدبر المعاني. ما علينا… فالشاهد هو أن العمل والكتاب وجهان لعملة واحدة، يرتقيان معاً، وينحطّان معاً، فإذا كان الحصان رمز الحركة، فإن الكتاب موئل البركة، وبحسب المتنبي:
أعزّ مكان في الدّنا سرج سابحٍ:وخير جليسٍ في الزمان كتاب