أيتها الحياة…

أيتها الحياة
من الواضح أن الحياة أجمل حسناء في هذا الوجود، لذلك تجد الناس حريصين عليها من الطفل الرضيع حتى الشيخ الفاني الذي يرجو من ربه أن يمدّ في عمره ولو يوماً واداً رغم أن هذا اليوم لا يقدّم ولا يؤخر، وإنما هو حب الرضاعة الذي يربط الإنسان بثدي أمه (الحياة)، وقد أدرك هذه الحقيقة أبو الطيب المتنبي:
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملّ=حياة وإنما الضعف ملاّ
حتى هؤلاء المنتحرين من الشباب الضائعين الذين يروّعون الأقطار العربية والإسلامية ليسوا كارهين للحياة كما يظنّ البعض خطأً وإنما لقنوا من شياطينهم أنهم ذاهبون إلى حياة أبهى وأحلى، وغُسلت أدمغتهم بهذه المراهم التي يسوّقها نفرٌ من محبي هذه الحياة الدنيا، يظنّون بأنفسهم وأولادهم على الموت ويأنسون إليه في الآخرين، وأبنائهم وهم يتوسّلون بدماء الشباب المغرر بهم إلى رفاهية يتقصّدونها أو سلطة يتصيّدونها، أو ثأر يأخذون به، أو ملهاة دامية يتسلون بها، وكذلك تلعب الشياطين.
ما علينا… فالدنيا في زمننا تفيض بالكراهية بسبب غياب العدالة والأثرة التي طبعت علة القوم في كل مكان، والناس كما يقال على دين ملوكهم، ولو تأملنا في الرسالات السماوية التي نعمت البشرية في سطوعها بإنسانيتها وأخوتها الإلهية لوجدنا أن أهم دعائمها بعد الإيمان هو استقامة الحياة على الأرض على أسس من التراجم والتكافل والعدل، أما حظوظ الناس فهي تختلف وتتباين، وكل حظ قل أو كثر هو امتحان للإنسان وابتلاء، فلا يظننّ فقير أن في الغنى السعادة، ولا محروم من السلطة أن في الكراسي النعيم، ولا مغيّب عن الناس مشوق إليهم أن في الناس ما يرجوه، وكما يقول الشاعر المصري اليوناني كفافيس “إذا خسرت سعادتك في هذا الركن من المدينة التي احتضنتك فلن تجدها في أي مكان آخر من العالم”. حشاشة الإنسان هي بعض نسيج جسده، وجسده بعض نسيج روحه، وعبثاً يبحث في خارجه عما هو داخله، وعن الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي في كتابه (المواسم) الذي أخذته من صديقي محمد عبدالودود طارش ولم أعده إليه لكأني نويت “وإنما الأعمال بالنيات” أنقل عن مسافة ما بين النفس والناس، النفس التي تعاني وتنزف الحب والأحباب، والناس الذين يعاينوا، فهم كالمرايا بدون عمق، فليس من الحقيقة إلا ما للمرايا من الشخوص الناظرين إليها تفقد أثرهم بمجرد أن يبتعدوا عنها. يقول غازي بعد أن بكى وأبكى، وراء قافلة من الراحلين يتفصدون من دمه وينسلون من قلبه أشقاء وشقيقات وأمهات: “وتسير مع الحياة التي تسير. الحياة التي لا تتوقف لموت أحد، تعود إلى روتينك اليومي من العذاب اليومي الذي يحسدك عليه كثيرون، ويكرهك بسببه كثيرون، ويحبّك من أجله كثيرون، وفي العذاب اليومي لا بد أن تبتسم حتى عند ما تهطل في قلبك سحائب الدموع”.
هذه هي الحياة أولها شقائق النعمان، وأوسطها ابتلاء الزمان، ونهايتها تفرق الندمان. وكنت قد أشرت قبل يومين إلى قصيدة لغازي القصيبي قال ناشرها – كأنه ينعى نفسه قبل رحيله – ثم وجدت على غلاف المواسم للشاعر نفسه، وأغلبها مواسم رحيل ما يؤكد ما في القصيدة، “أما الآن وفي الخامسة والستين، فبلأوك في الروح، أزمتك أزمة روح وأزمة جسد، أزمة روح تململت في سجن الجسد وأزمة جسد أضناء تململ الروح، تحمل ألف جحرح، وبعضها ينزف وبعضها جف وبعضها يتكون.
أيتها الحياة، ما أحلاك وما أمرّك، وما أشد اصطبارنا على بعضنا، أنت تنهشيننا ونحن نتجرعك حتى الثمالة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s