الطريق إلى عدن

لطالما ارتبطت مدينة عدن في ذاكرة الأساطير بجنات عدن وبالنار التي تخرج من شرقيها الصحراوي إيذاناً بالقيامة والنشور، كما ارتبطت بالجاهلية كسوق من أسواق العرب في ذاكرة المؤرخين، فإذا كانت عكاظ والمربد ترتبط بإنتاج الصحراء من الإبل والأغنام والصناعات الجلدية والغذائية الناتجة عنهما وكذلك الشعر، فإن عدن أضافت إلى ذلك ما يأتيها بحراً من الشرق ومن إفريقيا، وهي بذلك تعبير عن عبقرية الموقع الذي يخلق وظيفته ويطورها مع تقدم الحضارة واتساع التبادل الإنساني.

ومن أمتع ما قرأته حولها كتاب “تاريخ ثغر عدن” لـ”بامخرمة وابن المجاور” وفيه مادة أصيلة لا تنتهج نهج المؤرخين القدماء الذين يتحدثون فقط عن نشوء الدول وسقوطها وحكامها وإنما نجد في هذا الكتاب الذي كتب قبل ما يزيد عن ألف عام مادة مثيرة عن الأسواق والبضائع المتوافرة فيها وأسعارها وما تفرضه الدولة من ضرائب، وعن القوانين المنظمة لهذه الأسواق وكيف يؤتى بالجواري وعمليات بيعهن وشرائهن وفحص مميزاتهن وعيوبهن وما يتصل بذلك من طرائف، ولاتزال في عدن متصلة ببرها وبجسر جزيرة العبيد التي سميت في الزمن الاشتراكي “جزيرة العمال” وهي كما يبدو كانت محطة حين كان العالم كله يتاجر بالبشر وخاصة من القارة الأفريقية التي نزفت بشرها وفقدت الكثير من إيمانها بالإنسانية وبالدعاوى الكاذبة للمستعمرين وعصابات القراصنة، التي تشهد هذه المدينة وهي دامعة هذه الأيام صورة من صورها المعاصرة في قراصنة البحر الذين يأتون بالإخوة الصوماليين من ضحايا الحرب فيرمونهم بعيداً عن الشواطئ وفيهم الأطفال والنساء العجائز والحوامل الذين يصبحون طعاماً للأسماك.. ومن نجا منهم يعانون شظف العيش، فيما المجتمع الدولي وحتى العربي يتفرجون على هذه المأساة التي تدمي القلوب، ومن يزر الحي الذي يسكنون فيه في أحد أطراف عدن بمنطقة تسمى البساتين سيعرف بشاعة الحروب وظلم الإنسان للإنسان والشرور التي تذكيها المصالح الدولية ثم تبتلى بها شعوب ضعيفة مغلوبة على أمرها.

الطريق إلى عدن للقادم من تعز تعج بالمظاهر المتناقضة، فالطبيعة ما بين عدن وتعز تعكس بوناً شاسعاً، ففي تعز اعتدال المناخ والبروق والرعود والأمطار في هذا الموسم، وفي عدن المناخ الحار والبحر الأزرق المحيط بها من كل الجهات، فهي شبه جزيرة، وكذلك الجفاف فهي تعتبر أقل نقطة ممطرة في قارة آسيا.

في تعز يهبط الليل فتشعر أنه يسحبك من يديك ورجليك إلى منزلك وسريرك، وفي عدن يهبط فتشعر أنه يطلبك للخروج لتستمتع بجمال المدينة، في تعز يشتكون من أن عدن بعد الوحدة قد سحبت جزءاً كبيراً من تجارتهم، وفي عدن يقولون هذا صحيح ولكن أكثر التجار هم من أهل تعز، واحدة بواحدة.. وحين يأتي الخبر سيكون فيه متسع للجميع، في الطريق مررنا بمدينة الراهدة وقد اتسعت كثيراً وعمرت وهي مرشحة لاستقطاب جزء من سكان تعز المحصورين بين جبالهم مع قلة الماء الذي يذهب هدرا وضعف الكهرباء، وكان يفترض أن تتوسع المدينة باتجاه طريق الحديدة فإذا بها تتجه خارج كل تخطيط باتجاه “الحوبان” الذي كان وادياً للوحوش لتتواصل مع “القاعدة” وإب، وحين وصلت إلى العند في مدخل لحج سعدت بالطريق الذي اتسع وأصبح خطين مريحين، مرحى للمحافظ الجديد، فقبل ستة أشهر لم يكن هناك شيء وفي هذا الطريق كان الموت أقرب من الحياة حيث تأتي السيارات الحاملة للقات من الضالع وهي تطير كأنما يسوقها جن لا بشر .. عدن تبتسم لزوارها وتفرش لهم الطمأنينة وفيها الكثير من المشاكل ولكنها تكافح، أما المدينة القديمة “كريتر” فإن شوارعها تبلط بالحجارة وهو مشروع حضاري يزيدها بهاء على بهاء .

إلى اللقاء.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s