ها أنذا – مجدداً – أقف أمام مدينة (تعز) الفاتنة، أتطلع إليها مع انبلاج الصباح من شرفة ساحرة تطل من فندق (سوفوتيل) البالغ الأناقة، والذي يحتل قمة جبل لا ينافسه فيها منافس في مواجهة الجبل العظيم (صبر) الذي يحتضن مئات القرى الوادعة المطمئنة تصعد إليها السيارات وتنزل كأنما طرق نمل في أناملها.
وكنت قد وصلت إلى الفندق مع مغيب أمس الأول، فإذا بي وسط ريح عاصفة لا أدري من أي اتجاه تهب، فمن يكون وسط اللجة تتلاعب به الأمواج ذات اليمين وذات اليسار، لا يملك ترف التساؤل عن الإتجاهات، وقد أحيط به إحاطة السوار بالمعصم، ولكن تلك الرياح الهوجاء لم تكن متربة كأنما صفيت بمنخل، ولا أدري إذا كانت قد استنفدت الأتربة المصاحبة أم أنها تهديها إلى الساكنين في قاع المدينة، فلا تصل إلى قمة (سوفوتيل) إلا وهي مفلترة، إنها إذاً رياح سياحية لا ترحم الفقراء، كما لا يرحمهم الغلاء، وعلى حد تعبير المثل اليمني “وين الغني أزيده، وين الفقير أقطع ايده”. وأنا وسط الرياح المتماوجة رن المحمول – الذي يركب الهواء كما يركب الأعرابي جمله الذلول – وقال لي مخاطبي الصديق (محمد عبدالودود طارش) أنه في الطريق إلى تعز قادماً من صنعاء، وهو في يريم بالقرب من سفح اجبل (سُمارة)، قلت له: “سر إن استطعت في الهواء رويداً، فما والله ينتظرك في تعز غير الريح التي تنصب كأمطار جنوب شرق آسيا… المهم، خلصت إلى داخل الفندق فتنفست الصعداء، فإذا بالمدير المقيم الأستاذ/ محمد رجب من مصر الشقيقة يرحب بي بحرارة و “نوّرت تعز يا بيه”، قلت له: “واضح ألا تسمع معارك الجن خارج الفنق، قال لي بكل ما في المصريين من خلفة دم: “ذي الريح اللي احنا بعثناها عشان ترحب بيك”، يا سلام… يا سلام، إن من الكلام لسحر، تبسمت فما عدت قادراً على الضحك، وقد تصالحت مع الريح ما دامت مضيفتي، وكان قلبي – حقاً وصدقاً – مع الأشجار الجميلة ذات القواز الرهيل والتي تتراص كصفّات العقود على جيد الجبل، وقد قيل لي أن من هندسها هو أحمد هايل سعيد، فخفت عليها من جبروت الريح، ولكنني رأيتها تنتحي حتى تلامس ذراها قيعانها، وهكذا كأنما تؤدي تمارين رياضية، ولأول مرة أتبين عياناً بياناً صدق المثل الذي يقول: “لا تكن يابساً فتُكسر، ولا ليّناً فتعصر”، وذلك الآخر الذي ينصح بالإنحناء للعاصفة حتى تعبر، وما الحياة غير سلسلة من العواصف تُروّعنا ثم لا تلبث أن تنحسر فنضحك منها ومن أنفسنا، وقد ظلت العاصفة طوال الليل تطرق الأبواب والنوافذ حتى استنفدت طاقاتها، كأنما هي حمى المتنبي التي يقول عنها:
كأن الصبح يطردها فتجري=مدامعها بأربعة سجام
لعل تلك الرياح قد أدت للمدينة وحقولها المحيطة خدمات جلية لا أعرها… العالم مليءٌ بالأسرار
عدت إلى ما كتبتبه الحكيمة الفرنسية (كلودي فايان) في كتابها (كنت طبيبة في اليمن) عام 1953، وقد مرت بتعز قادمة من عدن في طريقها إلى صنعاء، “الصباح في اليمن مشرقٌ على الدوام، وفي عام ونصف لم أشهد إلا صباحاً واحداً عابساً غائماً، ولكن السماء الزرقاء مرقطة بسبح بيضاء تنفذ منها أضواء متنوعة، وتعز فتنة ونعم بعد جحيم عدن من شدة الحرارة”. ويرى الأجنبي أجمل مناظرها من دار الضيافة، “أين منه فندق سوفوتيل العالم الإطلالة؟!”، فالبيوت متناثرة فوق بعضها البعض على سفح جبل صبر ومنحدراته، والطقس هنا على ارتفاع 1200 متر بارد خفيف – رغم وهج الشمس – ولا يسمع المرء في هذا السكون – الخالي من كل حركة ميكانيكية – إلا شدو العصافير وغناء الطيور.
لكم تغيرت تعز أيتها الطبيبة، فقرية الخمسة آلاف نسمة التي تحدثت عنها تضاعفت آلاف المرات، وهي الآن تزحف بعيداً بعيداً بعيداً عن جبلها العظيم، وفي كل الاتجاهات، حتى لتكاد تختنق، أما الطبعية فمن الصعب أ، تتغير إلا بمقدار، ويماً واحداً في 365 يوماً هو بمثابة “حُـلاية” ولو كانت من مطبخ الريح… أكتب الآن وأمامي المدينة البيضاء فاتنة الدنيا وحسناء الزمان…
صباح البهاء يا تعز…