في حضرة الحضراني..

في حضرة الحضراني… تشرق شمس السكينة وطمأنينة الأنسام التي تهبّ بمحبة على الصحيح والجريح، على الطائر والطريح، على القريب والغريب، على الماضي وإن أدمى، والمستقبل وإن أظما…

الحضراني الإنسان، والحضراني الشاعر، هما الديوان الكامل لمن عرف ذاك وقرأ هذا. قلّ أن يتجسّد الرجل قصيدة هامسة عاشقة، والقصيدة رجلاً يتدفق عاطفة عذبة الينابيع إلاّ لدى إبراهيم الحضراني الذي لم ينفصم أبداً كما هو جاري العادة لدى غالبية الشعراء، ربما لهذا السبب لم يبال الرجل بتجميع شعره أو تقديمه للناس، حتى أتعب محبّيه، يجمعون نثاره كما تجمع شظايا اللّقى من فم الزمان البعيد، ذلك أنه كان يشعر صادقاً أنه هو الشعر وليس القراطيس، وإن أجمل لآلئه ما زالت في أصدافه الذهبية.

لقد أكل مجايلوه وجوه بعضهم بعضاً في تقلباتهم السياسية، ومطامعهم الإنسانية، وظل هو أوقيانوس الحب لا يماري ولا يجاري، لا يغالي ولا يبالي، فما جاءت به الريح فلتأكله العاصفة. أما معاناته الهائلة من الزمان وأهله، ومن الطغيان وجهله، فقد كان يعالجها بالقبول الفلسفي والتسليم الإيماني {فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم}، ما كان أبداً غضاً هلوعاً، فنعومة الماء التي طبعت حياته هي من ذلك النوع الذي يجزّ الصخور الصماء، وقد كان غنياً بالاستغناء، عالياً بالاستعلاء النبيل، مترعاً بالعطاء:

يا حبيبي وفي الضلوع رمادٌ=من بقايا أيامنا عبّاقُ

ضعه فوق الجراح، ضعه لو=طرفة عين فإنه ترياقُ

هذه لحظة هي الدهر=لا ماضٍ تولى ولا غدٌ يُطاقُ

هو ابن اللحظة بامتياز، لذلك فإن حضوره لا يعتريه النقص، ولا تكدره المنغصات التي سلفت، وهذا ما يجعل شعره رائقاً على الدوام، لأنه كالرغيف الحار الخارج لتوّه من التنّور… وطبعاً هذا لا يعني بأية صورة من الصور أن الشاعر غير قابل للإيذاء، فما أكثر ما أوذي، وما أشدّ ما تألّم، ولكنه يعبّر هذا البرزخ بالتسامح والغفران والتسليم بحقائق الحياة الكبرى وتشوهات النفس الإنسانية في ضعفها وأنانيتها:

قلبي يكاد لفرط الشوق ينصدعُ=أحبتي حملوه فوق ما يسعُ

يئست من خير ما عاشرت مقترباً=فكيف أحسن ظناً بالذي شسعوا

لقد تغرّب الأستاذ/ الحضراني كثيراً، وتعرفت عليه الكويت عام 1971م، وكان يعمل في مجلة (العربي)، يساير زمانه بالرضا والإبتسامة، وذلك الدفق من الحب تمطره عيناه. وحيداً التقيته في بغداد بعد ذلك بسنين، كان الدفق قد ازداد بصفاء الزمن، ولم يخدعني في أي وقت هذا الكساء الزاهي الذي تمزّق في روما بإيطاليا

أمشي بـ (روما) حائر الخطوات لي سمعٌ كفيفٌ=يتحسس الكلمات كالأعمى بهمهمة يطوفُ

إن نزيل سجن حجة 1948م برِء من الآلام ولم يبرأ، ولكنه تسامى على ما اندمل وما لم:

كم تعذبت في سبيل بلادي=وتعرضت للمنون مراراً

وأنا اليوم في سبيل بلادي=أبذل الروح راضياً مختاراً

تحية إلى الأستاذ/ الحضراني، خير من عبّر عن جمال صنعاء الخفي وروحها الخالدة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s