شاعر المليون

لا >ري أيهما أكثر رنيناً في هذه المعادلة: الشّعر أم المليون؟ ولكن كل جانب وجد طريقه إلى الآخر، وبجاذبيّتهما المتبادلة وجدا طريقهما إلى جمهور عريض يشاركهما الإستمتاع باشعر والسباق نحو المليون، وهكذا تركض الجياد في الميدان، ويشتد التصفيق، ويعلو الغبار، ويتغير الشعراء من الداخل رويداً رويدا، فللشهرة التلفزيونية – التي تقتحم المخادع وتغزوا المجالس وتعيد تذكيرنا بداحس والغبراء – ثمنها، فالشاعر الذي كان بريئاً كالنبع الرقراق، قد يًصبح ماؤه غوراً أو أجاجاً، فهو لم يعد على سجيّته بعد أ، حولته الشهرة إلى صناع، والجمهور المتلقي في البدء قد يتحول إلى سوطٍ يلهب ظهر الشاعر الذي لم يعد يعرف كيف يُرضيه، فهو في البداية كان يبدع لنفسه، أما الآن فعليه أن يُفصل على مقاسات الشهرة أو يُطرد من جنة المليون، وهما أمران أحلاهما مرّ كما يقول أبوفراس الحمداني.
عموماً أنا قليل المشاهدة للفضائيات التي تتوالد كالدّود إلا ما صدف، ولكن برنامج شاعر المليون من تلفزيون أبوظبي صار حديث الناس، فالمتنافسون من أقطار شتى، وبذلك حاز ما حازته قبله كرة القدم في المنافسات الوطنية والإقليمية والدولية، فسواء أراد الشاعر أم لم يرد فإن الجمهور يعتبره ممثلاً لوطنه، وعليه أن يقطف النجوم وإلا عُد في الخائبين، وهكذا أضيف إلى معادلة “الشهر” وهو خلاصة الفن “المليون” وهو زهو المال، وأضيف إليهما الحماس الوطني، وهو هنا جاذب خطير للجمهور وتعصّباته، وقد قرأنا بدون تعليق كم دفع العراقيون البؤساء من ماليين دولارية للإنجاح مغنية شابة من أب عراقي وأم لبنانية، ولم تعض في العرق كما قيل والعهدة على الراوي، ولأن رزق الهبل على المجانين فإن الفضائيات المتعطشة إلى الإيرادات، والغارقة في المنافسات، وقليلها مفيد وكثيرها هابط سوف تعمل بكل ما لديها من حيل وإغراءات على استصفاء جيوب الجمهور عبر الإتصالات التلفونية المكلفة، والتي لا يشعر بها المتصل، ولكنها كقطرات المطر المنهمر، لا تلبث أن تتحول إلى سيول إلى أرصدة بنكية تسيل اللعاب، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود.
أمس الأول عشت تجربة طريفة، ففي مطار أبوظبي كان بين المسافرين الشاعر اليمني عبدالله عبدالرحمن الأهدل، ولم أتبينه، ولكنني سمعت الهمسات من هنا وهناك، “هذا شاعر المليون، هذا شاعر المليون”، وبالكاد تعرّفت إليه، وكان يسير والحق يقال “واثق الخطوة يمشي ملاكاً”، وعلى رأي أم كلثون، وكان يصحبه مرافقٌ يحوطه كما يحوط المرء كنزاً يخشى عليه من الضياع، وكان المرافق ينبه العساكر الذين يدققون الجوازات أو يحرسون تقاط العبور بأن هذا “شاعر المليون”، فيسارعون بطيبة وود إلى تحيته وتسهيل عبوره، ذلك أن شاعرنا كان كثير الجدل والخصام، وحتى أ،ه حاز جائزة خاصة بسبب ذلك، أما المليون فلم يكن من نصيبه، ولكن الإسم سيظل عالقاً به، وحدها الهندية التي لا تعرف العربية والتي كانت تقف وراء ميزان (اليمنية)، لم تستطع أن تفهم معنى “شاعر المليون”، وهو معذورة في ذلك.
وفي مطار صنعاء كان التلفزيون بكاميراته يترقب الشاعر حال نزوله من سلم الطائرة، وكان المطار مزدحماً ولا أمل لي في خروج سريع، وما من أحد يعرفني، فتعلقت بأذيال الشاعر للوصول إلى برّ الأمان، ويا خسارة ثلاثين عاماً من الكتابة المنقرضة في عالم الأيائل، والعوض على الله… اللهم لا حسد.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s