هل تلاحظون أن الذاكرة العربية تنزف من جسامة الخسارات التي لحقت بالعقل العربي الذي انساق في المتاهات الكبرى ليخرج بعد نصف قرن من التضحيات ب«قبض الريح وباطل الأباطيل، ثم يجد نفسه مدعوّاً إلى البدء من الصفر وطي صفحات الماضي «وهنا حفرنا وهنا دفنّا»..
هل هذه سياسة؟ وهل الأجيال الجديدة ليست بحاجة إلى التنوير حتى لاتتكرر قصة الفأر الذي يجري اصطياده منذ آلاف السنين بقطعة الجبن المعلّقة في “المحناب” دون أن يعتبر او يستخلص، وإذا كان الساسة لا يتكلمون لكيلا يتألموا، فإن بقية خلق الله الذين يدفعون ثمن السياسات والايديولوجيات ينبغي أن يتكلموا لكي يتعلموا، ولا بأس بقليل من الألم فالجرح لا ينظف الاّ باستصفاء القيح وللساسة فيما يذهبون إليه مصالح آنية قصيرة النظر لا يريدون التشويش عليها، وهذه أصول اللعبة كما يظنون.. فلهم لعبتهم وليتركوا لنا ألعابنا« أهل السلا في سلاهم وأهل المساجد يصلّون».
من مطبوعات 2007 كتاب للصحفي اللبناني المرموق “حازم صاغية” بعنوان «هذه ليست سيرة»، وبذلك أكد أنها تقدم نفسها كسيرة سياسية لكاتبها، فآثر أن يلجمها على أساس أن حياته مازالت تتدفق، وهذا فن من فنون العنونة التي تتلاعب بالقارئ دون أن تخدعه تماماً، وفي عرضه المشوق لرحلته المثقلة بذنوب العصر وتقلباته العاصفة بين الدين والطائفة والأمة والاممية وصل إلينا في عدن إبان مرحلته الشيوعية عبر سؤال وجهه إليه المفكر والسياسي السوري المعروف ياسين الحافظ “وكنت عائداً من اليمن الجنوبي الذي يحكمه الرفاق” «فسألني بسخرية لا تكتم تعالياً غير عدواني» وكيف وجدت بناء الاشتراكية من دون قاعدتها؟ لا يجيب حازم إلاّ بعد صفحات من اثارة السؤال قائلاً: لم أجب ياسين الحافظ عن سؤاله اليمني كي لا أعطيه ضدي حجة أخرى، لكن الحقيقة الطبقية التي كانت تترنح في بيروت لم تزدها زيارة عدن إلاّ ترنحاً، فجنوب اليمن كان يحكمه آنذاك ثالوث متعادل من الاخوة الرفاق هم: «عبدالفتاح اسماعيل، وسالم ربيع علي، وعلي ناصر» وقد توزع الثلاثة فيما بينهم سلطات الحكم فبدوا توائم متساوين تساوي حبوب الحنطة، فإذا جمعت بينهم صورة تذكارية ظهروا بملابس متشابهة جداً، وهم يكادون يكونون في طول واحد والثلاثة كانوا يرخون الشوارب عينها، ويعبسون العبسة نفسها ويقولون بطبيعة الحال الكلام السياسي ذاته.. وهم في مسار تحولهم من القومية العربية إلى الماركسية تشاركوا في طعن أبيهم قحطان الشعبي فتعمدوا جميعاً بدمه قبل أن يتنازعوا على حق البكورة.
ويواصل من موقع المحب الناقد لا الخصيم الحاقد “هناك في الدولة التي أنشأها بدت الحياة ضريبة على عقول البشر وحرياتهم أما المرافق الذي كلف اصطحابي أخبرني أن تحدث اليمنيين إلى الأجانب ممنوع، وعندما ذكرته بالأممية ذكرني بالجواسيس وقد زرت مدرسة لتوطين البدو الرحل أسميت مدرسة “لينين” الاّ أن استاذين سمح لهما أن يتبادلا الكلام معي لم يعرفا من هو ذلك الروسي الجليل الذي يدرسان في ظلاله، وفي نهاري الخامس في عدن وكانت «غمرتني» الانجازات فآثرت أن أقضيه في غرفة الفندق متذرعاً بمرض “مزعوم”.
ويختم حازم صاغية في شهادته الأسيانة «ولم تنقضِ غير اشهر على عودتي حتى التهبت عدن بأولى حروب القبائل، وكل واحدة منها ممهورة بماركسية- لينينية ما.. ذاك أن الدم والعصبية غلبا الطبقة هناك أيضاً، وقتل سالم ربيع الذي كنا غنينا له مع الرفاق الظفاريين “سالمين معلمنا”.
تعليقي: لقد انطلقت التجربة كقطا واثق الخطى وافر القوى شديد العزم، لكن -وياللأسف- كان بلا فرامل.. بلا فرامل و نتكلم.. لكي نتعلم.. سامحونا.