
الشيوعي الأخير
يخوض سعدي يوسف معركة التبخّر الأخيرة حين لا يقى في القدح سوى الثمالة، فلا شيء أشد إذهالاً من أن تجد جيلك المُنيف الذي كان يحكم الجهات الأربع، ويسرق أشعة الشمس الأولى، ويصطاد أعلى الأنسام المنعشة، وإليه تستند الظهور المرهقة بكل طمأنينة وعشق، وقد تبخّر، فتاهت الأرض التي كانت تستمدّ هويتها من وجوده الحاكم، وأصبحت بلا إسم ولا محدّدات.
شيء مثل هذا لا يشبهه سوى هول يوم القيامة، حين تكون الجبال كالعهن المنفوش، وهو القطن الذي يُندف فيتطاير في الريح كأن لم يكن له قوام وتماسك. هذا ما جرى للإتحاد السوفييتي ومعسكره الشيوعي، فقد جعل منه لينين وريث عرش ماركس وإنجلز قامة في قوام الهملايا، ورفعته في السماء الزرقاء، وجاء ستالين من بعده ليكسوه بالحديد الذي تتحطّم عليه العواصف النكباء، وقد امتزجت أيدلوجيا لينين البالغة الثرثرة، السخيّة الوعود بصرامة ستالين الذي لا يتورّع عن قتل إبنه وغض النظر عن رحيل ابنته إلى معسكر الأعداء على أن يبقى المنجل والمطرقة في العلم الأحمر، شاهداً كبرياءً لأيدلوجيا غير قابلة للهزيمة، وهذا ما تلقّفه شيوعيو العالم بعيداً عن السّهوب الروسية غير المتناهية، وسعدي يوسف كان واحداً من هؤلاء الذين ألهموا بالحلم، وكان الأحمر يتخطّفهم في المنامات، ويقول على ألسنتهم أعذب الخلاص وأجمله، حتى ليغدو الملكوت قاب قوسين أو أدنى، حيث يضع الحمل يده في يد الذئب ليسيرا على بركة الله نحو شمس الكرملين، حيث باب الكنسية الماركسية يبشّر بخنق الرأسمالية بحبال تستورد من بلدانها ومن صنع يديها. لا شيء أعظم من الكلمات في عزلتها عن الواقع وتعاليها عليه، تأتي نظيفة صقيلة مفصّلة على القوام، إن استطاعت السّير على الأشواك فقد أبلت وإن عجزت فقد حاولت وستعاود، فالواقع دائم التغيّر، والكلمات تترصّده من مخابئها الأمين، كأغلى المجوهرات وأثمن الحلي في منجم البؤس البشري.
في ديوانه “الشيوعي الأخير يدخل الجنة” الصادر 2007 عن دار النشر المغربية توبقال، يقلّب سعدي يوسف الشيوعي الأخير على نيران الحلم المنطفئ، يفتّش عنه في داخله بعد أن خذله العالم الخارجي: “قد يستحيل الماء ناراً، والرياح معاولاً، لا نحن في فجر القيامة خُشّعٌ، ولا نحن الأوائل في سلاسلنا، فما انشقت قبور في الفلاة، ولا تراءت في المدى سفن العبيد”.من حق الشاعر بل ومن رسالته الحفاظ على النار التي سرقها بروميثيوس من السماء لكي لا تضيع الإنسانية في التيه، وما كل ما يتحطّم في الخارج يتحطّم في الداخل، والزمن يرحل دون أن يرحل، يرحل عن البعض ويحتفظ به البعض الآخر، فهو مفقود موجود:
“ربّما أخلد كالثعلب مقروراً إلى غرفته في دوحة البلّوط، لم تأت التي قالت ستأتي الساعة الرابعة ب. ظ، والبرد الذي لم يكن البتة برداً صار بداً، إنني أستحلب القات، أهذي مكّة أم يافع، كان هدير السيل يأتي غامضاً في هبة ساخنة للريح، لن آوي إلى معتصم أو نشز في الأرض، إني ذاهب في السيل، إني السيل”.
أحياناً يكون الشاعر محظوظاً حين يكون شاهداً على زلزال أو بركان أو انهيار عالم من الكتّان، فهو أول الموخوزين وآخر الممسوسين، وهو الذي يستطيع العودة إلى صدفته قبل اندلاع النيران “ما أبهى المعاد… كأنني ما زلت في عدن، وأثوابي وأتعابي على حجرٍ هناك”، يهجس الشاعر بمدينة عدن التي بادلها الحب: “قد طالما ألقيت أثوابي وأتعابي على حجر لأسبح في الخليج… إلى يميني شاطئ متردد بين الحصا والرّمل، ألمح في يساري عالياً بين الصخور فناري الأعمى، وكان البحر يهدأ في الخليج، وتلعب الأسماك بالألوان: أحمر، أصفر، والخليج يطل من عدن على عدن، ومن عدنٍ على يمنٍ سيبحر في الصباح ليلغ الجنات”، الله يسمع منّك… وقد لا تستجاب دعوات الشعراء في أحايين كثيرة مع الأسف.