ما يجري ليس تفاؤلاً ولا تشاؤماً ولا تشاؤلاً، الطيور تنتحر في فضاء مغلق، وما من أحد يقرع الباب… ما من أحد يقرع الباب.
أغمض عيني على اللاشيء، على دورة الفلك التي تطحن قرون الثيران، وتعجز عن طحن القمح لأطفال جياع، أغمض عيني على اللاأمل واللايأس، ففي عالم اللاشيء ليس سوى صهيل الخيول التي لا تراها، فهي تحفر بحوافرها الذاكرة المغلقة، فلا تلد سوى الكوابيس والجنازات وأطفال الشوارع الضائعين، والنساء المتسربلات بالسواد، يسرن من ظلام إلى ظلام، في بحر الظلام العميق. هاهي الخيول تمزق تلافيف دماغي عابرةً السهوب الوهمية، والصحاري المنفية، والوديان المنسية، تبحث عن فرسانها، فلا تجد سوى السراب الذي لا يطفئ عطشها، ولا يسرج كبرياءها، ولا تقبله منهلاً لها… لا تسيغه منهلاً وإن تدفق.
أين هم الفرسان؟ أيصح أن يتركوا أحصنتهم نهباً للريح والعدم؟ من الذي سيوقظهم من سباتهم في كهوف الهزيمة وبيداء اللا معنى؟ ومن تذللهم في أسواق العبيد؟
من يهن يسهل الهوان عليه : ما لجرحٍ بميتٍ إيلام
تباً لقوم يهينون أحصنتهم ويبيعونها في أسواق النخاسة، ومعها سيوفهم ورماحهم، وبقايا ماء وجوههم، تباً لهم وما كسبوا:”قبض الريح وباطل الأباطيل”.
ليس للجبال معنى لدى من يعجز عن تسلقها، ومن لا يمخر عباب البحر لا يتشرف بالإنتماء إلى القلوع والأمواج ومصاحبة السندباد، والذين لا يفكّون الحرف ويعجزون عن القراءة في كتاب الكون، لا يمكنهم إرشاد العميان إلى سبيل الرشاد، هذا زمانٌ يتنطع فيه من لا يحسنون: كيف لك أن تصنع باباً للمدينة وأنت لم تتعلم النجارة؟ كيف لك أن تصب زبر الحديد وأنت لم تتعلم الحدادة؟ من أين لك أن تحكم على الكمبيوتر والإنترنت وأصابعك لم تلامس الفأرة وتراها رجساً؟ أتتحدث عن الرفاهية ولم يكوِك الفقر؟ إنك لا ترى سوى ما في يديك، إذاً ضعف الطالب والمطلوب.
لا تسأل الأعمى عن صناعته حين يجب أن تأخذ بيده، ولا تسأل الزارع عن جبايته قبل أن تنظر إلى السماء إن كان فيها سحاب ممطر أم لا، لا تسأل الطالب عن درسه قبل أن تتبين أن المعلم متعلم، لا تسأل العسكري عن الأمن إذا لم تؤمّن عيشه بما يليق ببدلته السلطانية، لا تسأل المرأة عن الوليمة إذا كان مطبخها مأوى للفئران القارضة، لا تسأل الحاكم عن حكمه إذا كانت أفواه الناس معه وسيوفهم عليه، ولا تسأل الذين اعتزلوا في رؤوس الجبال لم اعتزلوا، دنياهم غير ديناك وفي صمت القمم يكون السكوت أفضل من الجواب.
لست متشائماً ولا متفائلاً ولا متشائلاً، ومن يملك مصابيح الدجى ليدلّني، هذا موسم الرياح الصفراء، غمرت بغداد بموت أصفر، وستدركني وإن خلت أن المنتأى عنها واسع. لن أرى أبي نواس يسير بخابيته نحو الشمس وهو يغني ليس الأعاريب عند الله من أحدٍ. ولن أرى بشار الأعمى الذي سخر من خال الخليفة حين سأله عن صنعته فأجاب: أثقب اللؤلؤ، لن أرى إلاّ ما بين الأعظم والكاظم، فقد نشبت بينهما حرب داحس والغبراء عبر جسر الأئمة.
من لم يجنّ بعد فليتهيّأ، فما بعد الجنون من غاية، حيث الاشيء هو كل شيء… يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.