لعل كثيرين قد سمعوا بالأخوين محمود وعبدالخالق سعيد، اليمنيين المنبع، السعودي المصبّ، كشأن جزيرة العرب في حراكها السكاني منذ أقدم العصور وإلى يوم يبعثون، وقد استضافني الاخ عبدالخالق مشكوراً على مائدة غداء في فندق قصر الإمارات دون ما سابق معرفة قائلاً لي ولمن حضر إن معرفة الناس مكسب أهم من مكسب المال وجمعه ولم يكن كلامه من طرف اللسان وإنما حصيلة تجربة مستفيضة كما يبدو، فرجال «البزنس»
في عالم اليوم يقضون جل أعمارهم وهم يطيرون من بلد الى آخر ومن مدينة الى أخرى ومن طقس ينحدر عن الصفر الى طقس يقترب من الغليان، وكل هذا الحراك الذي لا يكلّ ولا يمل، هو مزيج من العلاقات وكسب المعرفة ومن العمل الذي يشبه صندوق الهدايا الروسي الشهير تفتحه فتجد داخله صندوقاً آخر يحتوى في داخله على ثالث ثم رابع وخامس، وهكذا، تتفتح الاعمال ومعها تزداد الخبرة، فالأخوان اللذان اشتهرا بضاعة العطور على الغرار الباريسي حيث تبيع فرنسا من البارفيوم بعوائد أكبر مما يعود على العرب من بيع البترول قد نجحا في هذه الغزوة العطرية أيما نجاح وأصبح اسمهما على كل لسان، ذلك أن من جد وجد ومن سار على الدرب وصل، ولا فائدة من البقاء أسرى روائحنا التاريخية كما تفعل بعض بيوت التجميل دون أن تتجاوز ذلك التطورات الهائلة في هذه الصناعة التي تدر مليارات الدولارات سنوياً على المستثمرين والدول وفيها من الأسرار ما ينافس صناعة القنابل الذرية والصواريخ العابرة، والآن تدخل مع الثورة الرقمية تاريخاً جديداً ليس فيه «يمه ارحميني».
غايته حسب التعبير السوداني الظريف التي وجدت نفسي في غداء عمل، لاناقة لي منه ولاجمل، فعبد الخالق سعيد مصحوباً بأركان حربه من الخبراء الذين تربوا على يديه، فهو يؤشر على الطريق وهم يشقونه حتى النهاية، والطرف الآخر مصحوباً بعروضه وملفاته والأرقام تتطاير من فوق رأسي..
والله وقعت يابن النقيب وأصبحت مثل «الأطرش في الزفة».. إيش الذي جابك وقد كنت مدكي خلف بابك.. والحديث ليس في عطور وإنما روائح بترول وصهر خردة ومراكب تبحر وتريلات تعبر الصحراء، وياقافلة عاد المراحل طوال.
ما علينا، ساعة شدة وتهون، وقد تذكرت صديقي الراحل الشاعر عبدالله سلام ناجي في مخاطبته لجدته في الحجرية من دمشق الفيحاء: ياجدتي أنا بخير.. أنا بخير وعافية.. وما الشجن إلا عليك، وعلى البنية الراعية.. الله يرحمك يا عبدالله ويسكنك فسيح جناته.
وفي وسط هذا الجد لم يكن الرجل الكريم عبدالخالق سعيد ينسى تفقدي بين آونة وأخرى بسؤال أو بنظرة كأنه يقول لي: شارك معنا، وهيهات..
فإنني انطق الألف بصعوبة فكيف بمائة مليون دولار ومائتين، إذا ضربتها في الريال اليمني فسأبني بورقها قصراً كقصر غمدان.
قل يا سيدي بدأت الأطباق الفاخرة تهبط كأنها المن والسلوى فرق الحديث وراق الجو: «دغمه وبجمة» حسب التعبير المحبب لاستاذنا الراحل الحفاظة المشهور عبدالواسع حميد الخويل رحمة الله عليه، وهنا أدركت سر «غداء عمل» «وعشاء عمل» فعلى موائد الأكل تنحل أعقد المشكلات، وهذا ذكرني بنصائح الخبراء للنساء بأن الطريق الى قلب الرجل يمر من معدته.. وتمنيت لو أن الادباء والمفكرين والصحافيين الذين تتكسر في أيدهم وألسنتهم النّصال على النّصال دون أن يتفقوا، لو أنهم اقتدوا برجال الأعمال ولو على كسرة خبز وفنجان قهوة.. كل واحد يمد رجله على قدر فراشة.
طبعاً جو المكان كان ساحراً فالبحر الازرق على مد البصر والفندق مزيج من قصر الحمراء بالاندلس وضريح تاج محل بالهند وهو مصنف في فئة النجوم السبع وكل ما تراه أو تأكله أو تشربه هو من المستوى نفسه وأعلى ولا تزال كلمات عبدالخالق سعيد وهو يودعني ترن في أذني: الاعمال كالحياة إذا أقبلت تنقاد بشعرة واذا أدبرت تقطع سلاسل الحديد».. ومنكم نتعلم.. وشكراً على العزومة..