سجايا في مرايا..محمد حسين هيثم

كان صديقي الحميم الراحل سعيد محمد دحي يحدثني باستمرار عن صديق عمره محمد حسين هيثم الذي رحل عن دنيانا بغتة كما رحل سعيد قبله دون وداع، وكلاهما قمران من أقمار اليمن ألقاً وصفاءً وحباً للناس وعطاء في عالم الإبداع والإنسانية، وكنت أمني نفسي في أن يسنح الزمن فألتقي محمد حسين أتحدث إليه واستمع منه وأتلمس كبرياء الشعر في وهج عينيه،

وشجاعة الرأي وصدق القول اللذين طالما حدثني سعيد عنهما في منطقه، وكان ذلك هو الموعد المؤجل، لكأن الأشياء التي نحبها ونتمناها تراوغنا كالسراب كلمّا اقتربنا منه ابتعد، رغم أنه صانع الحلم والأمل في قيض الصحراء وسهوب الحياة القاسية كما هو حال الأدباء القابضين على الجمر في زمن يصح فيه قول الشاعر:

وجف الناس حتى لو بكينا

تعذر ما تُبلّ به العيون

وهأنذا بعد أن كنت أمني النفس بأن أسمع منه أجدني أسمع عنه، وقد انعكست سجاياه في مرايا من تحدثوا عنه لكأنما يقدم نفسه بنفسه للمفجوعين برحيله، وهذا من فيض النفوس السخية التي تواصل الحياة كأعظم وأجدى ما تكون الحياة، وموتهم ليس سوى محطة في رحلة طويلة عبر الأبدية التي تجعل امرئ القيس يعيش في وجداننا كأنه لم يرحل والمتنبي يغني لنا كأن لم تتناوشه السيوف في العاقول، وعبدالله البردوني مازال يملأ جوانحنا وجوانح اليمن بضحكاته المجلجلة ورؤاه النيرة، قدر البشر جميعا الرحيل، ولكن المبدعين هم الذين يفوزون بحيوات جديدة في سجل الخلود. أمس الأول جاءني الصديق الإماراتي المبدع احمد راشد ثاني، وكان صديقاً لمحمد، وبينهما لقاءات وحوارات حميمة كان آخرها كما ذكر لي في عمان بالأردن، وأخذني الى مقهى جلسنا عليه من قبل، لكأن الإنسان يترك أثراً من روحه حيث حل: على هذا الكرسي نفسه وعلى هذه الطاولة، ثم تتدفق الذكريات، مواضيع الحديث، ودمعة حزن تأبى أن تغيض وتأبى أن تسقط. حدثته عن أمنية لم تتحقق وقلت له أن دوائر المرور ترفع شعار: لا تسرع فالموت أسرع، ولكن المحبين ينبغي أن يرفعوا شعاراً معاكساً يقول: أسرع فربما كان الموت أسرع، قلْ لمن تحب: أحبك.. لا تؤجلها الى الغد، فربما لا يأتي الغد.

قرأت رثاء أستاذنا عبدالعزيز المقالح المليء بالحب الصادق والعاطفة المشبوبة، والفجيعة الحارقة، وكان في ذلك العز اء لي ولمحبي الراحل وفلذات كبده، فالكلام من قلب كبير يملأ ما بين العدمين، ويضيئ الأنوار في قناديل الليل، ويطرز الأزهار في طرق الرحيل: “أنني حزين لرحيلك أيها الشاعر، أيهاالصديق، البلاد حزينة عليك والشعر والشعراء، زملاء العمل، رفاق المسيرة المرهقة الطويلة بكل ما حملت من تجارب جميلة مثمرة وأخرى عقيم: من رأى وجه غيمان في آخر الليل وهو يواري عن الفجر دمعته، من رآه يصلّي وعيناه عالقتان بسقف الزمن؟ من رآه يشيل الجنازة في كفه، وكأن الجنازة كل البلاد وكل اليمن”.

صديقي وصديق الجميع الأستاذ خالد الرويشان أثنى أبّن الراحل بالقول “كان ممتلئا بالشعر وممتلئا بالعالم بكل ما فيه من جمال وحب وإبداع” ألم أقل أن مرايا محمد حسين هيثم سحرت كل المرايا وأفعمتها بفيض الأنوار وكأن المعزي هو المعزى به كما ذكر ذلك في إحدى قصائده “يحمل قهوته، ويوزعها بيديه، ويعزي المعزين ثم من فتحة القبر ينزل معتذرا، أنه يشغل الآخرين بأوهامه، ويسبب للناس هذا التعب” هل خبرتم رقة وكياسة وحباً للناس بهذا المستوى النبيل؟ رحم الله محمد حسين هيثم وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s