سجناء بلا حدود

Prison01تسعة وخمسون عاماً قضاها الكرواتي (دراجوتين) في سجن والدته (فيرونيكا جاجيك)، ظل خلالها في عزلة تامة، بغرفة في منزل العائلة في بلدة (بيلي ماناستير) القريبة من الحدود الكرواتية المجرية، والسبب كما ذكرت الأخبار أن الأم عاشت في خَجلٍ من أن يعرف الناس أن ابنها متخلفٌ عقلياً، لقد فضّلت قتله معنوياً بهذه الطريقة الوحشية على أن تواجه مسؤولياتها تجاه تأهيله والأخذ بيده في إعاقة لا ذنب له فيها، ولم يحرره من سجنه سوى موت أمّه عن 87 عاماً، وقد وجدت الشرطة (دراجوتين) بعد شهر من وفاتها في غرفته المقفلة، غير قادر على الكلام، ولم يكن يعرف بوجود التلفزيون أو الإذاعة، ولم يتوجه إلى فناء المنزل سوى مراتٍ قليلة على امتداد حياته، كما لم يرَ خلال الستة عقود من عمره سوى أمّه وأبيه الذي رحل من الحياة منذ عشرين عاماً، واثنين من الإخوة غادرا المنزل منذ زمن طويل للعيش مع عائلتيهما.
وفي تقديري أن المجتمع – أيّ مجتمع – يقدّر عالياً شجاعة الأُسر في الوقوف إلى جانب أبنائها المعوّقين، وليس في الإعاقة من عار إلا في أذهان المتخلّفين غلاظ القلوب، الذين يُعدّوا بتفكيريهم وسلوكهم معاقين بما لا شفاء منه، إذ أن الإعاقة في التفكير وفي العاطفة قد تلحق بأناس نراهم أسوياء في الظاهر، وكم من معاقٍ في العلن جيّاش العاطفة، إنسانيّ النزعة، يتوفر على مواهب عالية، ولو وُجد من يأخذ بيده لكان بين نجوم المجتمع. وأمامنا الفيزيائي البريطاني العالمي المُعاق (ستيفان هوكينج)، الذي يتبوأ المركز الأول بين علماء الفلك، ويقارن بـ (آينيشتاين). وهناك المعجزة البشرية (هيلين كيلير)، التي ولدت صمّاء بكماء عمياء، فاستخدمت التحسّس لمعرفة الأشياء وتمييزها، فكانت أصابعها بمثابة السمع والبصر والنطق، ثم قيّض الله تعالى لها امرأة عظيمة منحتها حياتها، وأسبغت عليها من علما وصبرها وفيض عاطفتها، فوُلدت خلقاً جديداً، عالمة ومؤلفة وداعية إنسانية أذهلت الدنيا بما أنجزت وبما اكتشفت من ينابيع النفس.
ومالنا نذهب بعيداً وفي أعماق وعينا وثقافتنا رهين المحبسين أبو العلاء المعرّي، الذي لم تسجنه أمه التي كان يحبها كثيراً، ولكنه سجن نفسه احتساباً وتبرؤاً من دنيا الناس وأطماعهم وإثقالهم على هذه الحياة:
هذا جناه أبي عليّ=وما جنيت على أحد
ولكن عزلة المعري كانت سياحة في الثقافة وفي النفوس، أثمرت ما لم تستطع الإحاطة به وهضم أبعاده حتى اليوم إلا قليلاً. وهناك طه حسين الأعمى الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. وعبدالله البردّوني “البصير” الذي رأى أبعد مما رأى الآخرون ممن اشتغلوا على ما اشتغل، وخاضوا فيما خاض.
وهؤلاء الثلاثة المعاقون في نظرهم لم يكونوا مجرّد مشاركين في الحياة، وإنما قادة لها، ليس في عصرهم فحسب وإنما عبر العصور، ولا يزالون حجة على الناس بفيض ما أعطوا وغيض ما أخذوا.
ما أريد أن أقوله لكثيرين وجدوا أنفسهم في موقع المسؤولية تجاه إنسانٍ حُرم إحدى النعم التي لا ندرك قيمتها إلا حين نفقدها، إن العطايا الرحمانية لا تعدّ ولا تحصى، وقد يكون هذا الإنسان المعاق أو الإنسانة المعاقة قد منحا كنوزاً من العطايا تحتاج إلى من يساعدهما للوصول إليها، والعالم اليوم يشهد حراكاً إنسانياً عظيماً ليتبوأ المعاقون مكانتهم، وما من نُبلٍ أو إخلاصٍ في أن يعمل أحدٌ ما عملته أم (دراجوتين) الكرواتي، والذي لو كشف وهي على قيد الحياة لكان عاراً عليها وأيّ عار، ولتمت محاكمتها وسجنها بقدر ما سجنت ولدها، وفي اعتقادي أنها كانت في سجن من ضميرها وأمومتها.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s