لا يمكن للحقائق أن تظل مختفية أو محجوبة إلى ما لا نهاية، فللزمن إبطاء وإسراع، والأمر الذي يجري البحث عنه اليوم بالتشمم والتنصت يكون في الغد مبذولاً لطالبه، وعلى حد قول المثل الشعبي “يا خبر بفلوس بكره ببلاش”، وقديماً قال الحكيم (زهير بن أبي سُلمى):
ومهما تكن عند امرئ من خليقة=وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
هذه القاعدة المعلوماتية أو المعرفية ينبغي أن يضعها كل إنسان في اعتباره ليتمكن من ضبط موازينه الأخلاقية، فللجدران آذان، وللناس عيون، فكلك عورات وللناس أعين.
السياسيون من بين خلق الله أجمعين يظنون أنهم أشطر الناس، وإن ما لا يسير على الأرض يمكن تسييره باللسان، لذلك يكثر الكذب في هذه البيئة الموبوءة، إما من باب التمني وهذا شائع وإما من باب التعمية وهذا تكتيكي يتلاشى، وإما من باب الحماقة وهذا مرض لا شفاء منه “إلا الحماقة أعيت من يداويها”، وإما من باب السذاجة ونصيب المتذاكين منها بقدر استهانتهم بما يرون وما يسمعون وما يكتوون بنيرانه.
لقد كشفت أكاذيب الإدارة الأمريكية لتبرير غزو العراق، وتعرت واحدة واحدة، ولم يبق حتى ورقة التوت التي تستر صميم العورة، فلا أسلحة الدمار الشامل وجدت، ولا علاقة صدام بالقاعدة وثقت، ولا الديمقراطية تحققت، ولا إعمار العراق نهض، ولا أموال البترول حفظت، ولا ساسة الخارج من المتعاملين أفادوا، ولا الطائفية نزعن أنيابها، وما من أحد الآن في بلاد الرافدين واثق من أي شيء، السنة غير مطمئنين، والشيعة في بلاء مبين، والأكراد في معزل مكين، وبقية الأقليات ممسوكة من حبل وتين، وحتى المحتل الذي جلب البلاء والفقر والغلاء يبحث عن مخرج ولا يجد من يساعده على ذلك سوى أعدائه المعلنين.
ومن نكد الدنيا على “الوحش” أن يرى = عدواً له ما من صداقته بد
مع الإعتذار لأبي الطيب المتنبي.
وحين تتكشف الحقائق تأتي في صيغتها النهائية المعتمدة على لسان شاهد من أهلها، حتى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وقد اعتبر المنسق الأمريكي لإعادة الإعمار في العراق (تيموني كارني) على سبيل المثال أن الوضع في بغداد مخيف، وأن سياسة الولايات المتحدة في العراق بعد غزوه في 2003 كانت حمقاء ومريبة، وقال (كارني) لإذاعة (إن بي آر) الأمريكية الرسمية “أعتقد أن كلمات قصور وغباء وشكوك هي الكلمات الألطف لتوصيف الوضع، كنا نعتقد أن في إمكاننا تولي حكم هذا البلد من دون العراقيين، وكان ذلك باهظ التكلفة على صعيد الوقت والخسائر البشرية التي لحقت بنا وبالعراقيين وبحلفائنا”.
كانت حماقة كبيرة… هذا ما خلص إليه المكلف بالإعمار، هل يحتاج أحد إلى مزيد من الإيضاح؟!