على المرء أن لا ينخدع بظاهر القول وفخاخ الإعلام الذي يعمم ولا يخصص، فتبدو الأمور كلمعان السراب في الصحراء، مرايا من الوهم في خداع نظري محكم يموت العاطش دون أن يصل إليه. ويعمد الخصوم عادة إلى العبور من هذه الأوهام البشرية المزروعة لتحقيق مآربهم دون جهد ودون خسائر تذكر، من ذلك إشاعة وهم القوة التي لا تقهر، وقد جربتها إسرائيل في العرب، ولا تزال تعمل عليها، وإن كانت قد ثلمت مؤخراً في العدوان على لبنان الصيف الماضي، وما مناورات الالجولان مؤخراً سوى تفعيل لهذه الحرب النفسية المبرمجة، وقد تأكد من المستقنع الأمريكي في العراق أن المجهود الحربي الأبرز كما هو الحال مع قتال الجيوش النظامية، ثم لا يلبث أن يتراجع وأحياناً إلى حد التلاشي حين لا تكون هناك أهداف مرئية، وهذا ما أشاع اليأس في أوساط الجنرالات الأمريكيين في العراق الذين لا يجدون للقوة الكاسحة التي تحت أيديهم مجالاً لصولاتها، وبدلاً من ذلك يسوقون جنودهم في دوريات نحو المجهول، حيث تصطادهم قنابل جوانب الطرق الميدانية فتردي منهم أضعاف أضعاف ما أردت الحرب النظامية. وهذا يذكرني بقصة رمزية تضرب لبيان نقاط الضعف وعوامل القوة غير المرئية، إذ يقال أن حيوانات الغابة اجتمعت لتداول الرأي حول طغيان الإنسا واستهدافه للمخلوقات الأخرى، واتخاذه من الوسائل ما لا قبل لها به، وبعد أخذ ورد طويلين انتهى الاجتماع إلى لا شيء، فقد اتضح أن هذا (السوبر حيوان) غير قابل للتطويع ولا للإبادة، نظراً لتمتعه بالعقل وبالقدرة على الاختراع، وقبل أن يذهب كل حيوان إلى حيث جاء سُمع صوت خافت يقول: “أنا كفيل بالإنسان، ولديّ القدرة على وضع حدٍّ لطيشه، فتلفتت الحيوانات لترى صاحب الصوت الخفيض والقرار الجهير فلم تره، فقال لهم: “لا تبحثوا عني، فلن تجدوني، وهذا سرّ قوتي، أنا (الميكروب)، أتسلل إلى داخل الأوادم دون أن يشعروا بي، آتيهم مع الهواء الذي يتنفسون، وفي الأكل الذي يأكلون، والماء الذي يشربون، لا يحدّني في الزمان والمكان، ولا أخشى السيوف والصولجان، وبعد ذلك أفريهم حتى يعرف الواحد منهم أن الله حق، وأن حق الحياة مكفولٌ للجميع”. وقد أعجبت الحيوانات بهذا الصنديد الذي لا يشق له غبار، وسلمت إليه الراية في صراعها مع أعتى الوحوش.
ما علينا… فالشاهد هنا أن على الشعوب أن تبحث عن نقاط قوتها فتنميها، وتنظر في نقاط ضعفها فنتجاوزها، والقيادات والنخب هي المكلفة عيناً بذلك الذي قد يكون بالنسبة لبقية الناس فرض كفاية، فإذا غفلت القيادات والنخب فأبشر باهدر وعدم التمييز، ثم تأتي الهزائم كقطع الليل البهيم، يسابق بعضها بعضا.
أمس قرأت تقريراً يكشف بعض نقاط ضعف قاتلة لدى الجيوش الأمريكية الضاربة، وذلك في ما يتعلق بتطبيب الجنود الجرحى، ليس في الميدان حيث ثمة أعذار ولكن داخل أمريكا نفسها، وتقول (واشنطن بوست) “إن الجنود المصابين يعيشون في مبان متداعية مليئة بالجرذان والعفن والصراصير، وإن كل على كل جندي تقديم 22 وثيقة إلى ثماني قيادات مختلفة للدخول أو الخروج من المركز الطبي، وقد اعتبر وزير الدفاع هذا الوضع (غير مقبول) ووعد بمحاسبة المسؤولين عنه، هذا هو الوجه الآخر لأمريكا التي تسوّق نظرية (الصدمة والترويع) ليذعن العالم… ومن يحاسب من؟