أشباح

أصدر 155 أكاديمياً ومفكراً ومثقفاً ومهنياً ومواطنون سعوديون عاديون بياناً أمس الأول حذروا فيه من مغبة التفرقة الطائفية في الدول العربية، وطالبوا بإجراء إصلاحات شاملة، كما دعوا الزعماء العرب على جميع المستويات لحماية بلدانهم من هذه الإنقسامات، حيث تشهد المنطقة العربية أوضاعاً مقلقة ومخاطر متعاظمة تنذر بها سياسة الفوضى الفتاكة التي تدفع بها قوى الهيمنة، معتمدة في ذلك على إيقاظ الفتن وإشعال الحروب الأهلية.
هذا البيان ممن لا يملكون غير اللسان هو أضعف الإيمان في وقتنا الحالي، ولكنه مؤشر على أن فئات اجتماعية – تصنف في العادة ضمن الأغلبية الصامتة – قد فاض بها الكيل، فهي لم تعد هانئة في صمتها، ولم تعد راضية في سياستها تجنب السياسية، ذلك أن السياسة لم تعد لعبة فوقية، كما درج الناس على ذلك عبر حقب متطاولة، وإنما أصبحت في كل بيت بحكم التدفق الإعلامي الذي لا يترك أحداً في حاله، ويشعر الناس – وهم على حق في ذلك – أنه لا بد لهم من تسجيل موقف لأن الجميع في الأخير شركاء في الوطن، وإذا استشرى الشر فسينال كل نصيبه منه، ويكفي الهدم النفسي والقيمي الذي يتآكل نفوس الناس، ويشمل حتى الأطفال الذين يتابعون سفك الدماء على الشاشات، وتخترقهم صرخات الأمهات الملوعات، وتلهبهم النيران التي تندلع من حرائق التدمير، أفيظنّ واهمٌ أنهم لا يتأثرون!! وللعلم مئات آلاف الأطفال في بعض الدول العربية والأفريقية يوضعون تحت السلاح قبل أن يبلغوا سن الحلم، وهؤلاء يصبح القتل بالنسبة إليهم تسلية كما هو الموت إماضة عين، فهم لم يعرفوا الحياة بعد، ولا تحمّلوا مسؤولية بنائها ومغبة هدمها، ولم يتشربوا القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية التي لا مكان لها في الحروب الأهلية على وجه الخصوص، وبأمثال هؤلاء المستلبين من آدميتهم ستلعن كل أمة أختها، ولا تلد إلا كافراً فجارا، وسيرفع الجميع الشعار الذي رفعه العراقيون إبان العسف الأموي “انج يا سعيد فقد هلك سعيد”.
إن الذين يتبسّمون في وجه الفتن ويكيدون بها كيداً الضعفاء، وهم يظنون من الغفلة أنهم ستربّحون منها، إنما يحرثون في البحر، وسيستبينون النصح ضحى الغد حيث لا تقبل منهم شهادة أبداً، ذلك أنهم يعدّون في حكم المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس منعقداً في قلوبهم، فهم ليسوا في حكم المغرّر بهم من الجهلة وممسوحي الدماغ أو الأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف، وعلى الباغي تدور الدوائر، وإن لبس مسوح الرهبان، أو تجلبب يجلود الخرفان.
كنت قرأت بالأمس تحقيقاً صحفياً عن جانب من مأساة العصر المتمثلة في ملايين اللاجئين العراقيين المشردين في الآفاق بلا مصادر عيش ولا ضمانات أمن ولا حتى الأمل في العودة، إضافة إلى ملايين آخرين أصبحوا لاجئين في وطنهم بسبب التطهير الطائفي تحت حراب الاحتلال الأمريكي.
يقول (أبو جهاد) وكان طياراً في جيش نظام صدام حسين وأصبح لاجئاً في مصر “نجوت من ثلاث محاولات اغتيال، وقد قتلوا شقيقي واغتصبوا ابنتي أمامي، وظلوا يضربونها حتى ماتت ثم حرقوا بيتي، وحتى بعد أن هربت يسعون لقتلي”.
من هؤلاء الذين يغتصبون ويقتلون ويحرّقون ويطردون من الأوطان؟ إنهم أشباح وإن أسميناهم فما سميناهم، لأن الغرائز المتوحشة تعبر كل التسميات وتتأبى عليها، والشاهد أن ما لم يكن في الحسبان أصبح خبر عيان ومنطوق بيان، فليتحسس كل رأسه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s