يتساءل مؤلف كتاب (أموال مخضبة بالدماء) الصحفي الأمريكي (كريستيان ميللر) في غمرة استعراضه لاستباحة الأموال وهدر المخصصات والفساد الذي استشرى تحت أعلام الجيش الأمريكي المحتل للعراق: “كيف تنجح دولة في إرسال رائد فضاء للهبوط على سطح القمر، بينما تفشل في سحب المياه من خزانات مياه المراحيض في إحدى المناطق الشعبية وسط بغداد؟”.
ويبدو الأمر من هذه الزاوية محاكمة في العمق للشرايين الفاسدة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تفرز غير الفساد، فالمسألة لا تقتصر على الفضل العسكري البادي للعيان، والذي تخذ ذريعة لصرف النظر عن أنواع الفضل الأخرى ذات الصلة بحياة الناس وصحتهم ومعاشهم، ناهيك عن أمنهم الذي أصبح ذكرى من الماضي البعيد، وقد خفت الحديث تماماً عن مسألة إعادة إعمار العراق، وكأن هذا البلد المنكوب قد ترك لمصيره في عهدة الغربان والبوم والقوارض، ولم نعد نسمع سوى عن الخطط العسكرية والمذابح تحت وعود بـ “التقدم إلى الأمام” الذي لا يدري أحد في ما إذا كان هذا “الأمام” هو الاتجاه شرقاً أم غرباً أم جنوباً أم شمالاً؟ فقد تداخلت الاتجاهات واختلطت الخطوط الفاصلة وأصبح على مكتب ساكن البيت الأبيض خيارات لا حصر لها “أحلاها مر”، وإدارته تعمل على طريقة العشاق السذج الفاشلين الذي يمسكون بالغصن ويبدأون في نزع أوراقه، الأولى: “يحبني”، والثانية “لا يحبني”، وصولاً إلى الأخيرة التي يتخذون قرارهم عليها ويا تصيب يا تخيب.
إن الكمبيوترات العملاقة التي تجري تريليون عملية في الثانية وتطارد الأصداء بين النجوم السيارة والمجرات العملاقة قد عجزت عن إرشاد (الأشاوس) في بغداد لكيفية سحب مياه المجاري، ولا يهم بعد ذلك إن كان الناس يموتون من الأمراض، أو يتعيّشون من المزابل، فالدولة المحتلة لا تبالي بالقانون الدولي الذي يؤكد مسؤوليتها التامة عن البلد المحتل وشعبه، وقد جهدت عبر السنين وبمختلف وسائل الضغط والتهديد لتوقيع اتفاقيات تحمي جنودها من الوقوف أمام أي محاكمة غير أمريكية، وهي في ذلك كمن يغطي عين الشمس بمنخل، فالعالم يتابع بالعروض البطيئة الجرائم المرتكبة والفساد المستشري وأكاذيب التضليل.
ويتحدث المؤلف بمرارة وبالأرقام عن الهدر وللاجدوى والفساد، فيقول أنه بعد ثلاث سنوات من الغزو كان “العراق قد تلقى أكبر قدر من المساعدات الخارجية في تاريخ أمريكا، وهو مبلغ يتجاوز ثلاثين مليار دولار، بما يفوق المساعدات المالية التي تلقتها الدول التي دمرتها الحرب العالمية الثانية في إطار (مشروع مارشال)، ويسمي المؤلف الفضل المقارن بنجاح (مارشال) البداية لعلمية بناء بلد رسمت على شكل قصر من الرمال”.
ومن عينات الفشل هبوط انتاج النفط بمعدل نصف مليون برميل يومياً، مما يشكل خسارة لا تقل عن عشرة مليارات دولار سنوياً، وفي مجال الكهرباء كانت متوفرة على مدار أربع وعشرين ساعة قبل الحرب، أما الآن فلا تتوفر إلا لحوالي 4 – 6 ساعات يومياً. وفي الرعاية الصحية يتفرج الأطباء على الأطفال الرضع وهم يموتون أمامهم بسبب انقطاعات الكهرباء، وفي المياه والمجراي يتسرب حوالي 60% من مياه الشرب من الأنابيب، وحوالي 20% من مياه الصرف الصحي التي تنشر مرض الكبد الوبائي.
هذا غيضٌ من فيض مما يكشفه كتاب (أموال مخضّبة بالدماء) وما خفِي أعظم.