ما الذي جاء بي هنا؟

يبدو أنني أوشك على مغادرة (تايلاند) أنا وصاحبيّ دون استكمال برنامجنا الطبي الذي أخذ يسعى إلينا، بدل أن كنا نسعى إليه، وهذا من طبائع الحياة، كما هو شتّان نصفنا الآخر، تعسى إليك مُدبراً، وتهرب منك مُقبلاً. أما أسباب القطع فأبرزها أمر واجب، فمثلنا معه – كمثل من يترقب العمر كله ليلة القدر، وحين قدومها وهلّت أنوارها أخلد إلى النوم – ونحن لا نريد أن نكون في هذا الموضوع، ولو علـّـقنا على أسنة الرماح، وقد قلت في ذلك:

تأبى  المروءة  والمحبة والوفاء
يوم  المكارم  أن  تكون iiالغائبا
أمّا   بقية   ما   عَزَمت  iiلنيله
فغداً   إليه  كل  دربٍ  لا  حبا
يأتيك من صنعاء ذو يزنٍ على
جبل  (النبي) شُعب نوراً iiلاهبا
والمسد  يأتي  في ضيافة iiأهله
أتكون   يابن  الأكريم  iiالسائبا

وقد علق (سالم صالح محمد) بالقول: “وجب”، وذكرني بقول (أبي نواس) وهو في طريقه إلى (محمد الأمين) إبن (هارون الرشيد):

وإذا المطي بنا بلغن iiمحمداً
فظهورهنّ على الرجال حرام

قلت له: “أما الظهور الطائرات فهي من باب “لا بدّ مما ليس منه بد” وإلاّ سنصل بعد عام وقد انقضى السامر”.

ومع ذلك هل انتهت الحكايات؟ لا أبداً… ذلك أن الزمّار يموت وأصابعه تلعب، كما جاء في الأمثال، وكذلك نحن معشر الكتاب الصحفيين، حيث يمكن تحول نغمة العصفور، أو قبلة الندى للورده أو عكّاز امرأة أحناها الدهر عليه بعد أن كانت فاتنة الدنيا وحسناء الزمن إلى موضوع يبكي أو يضحك.

سألت المترجمة التايلاندية في المستشفى – والتي قضت ثمان من السنوات في الأزهر الشريف – وكانت في غاية الاحتشام بزيّها الإسلامي: “كم تتقاضين من عملك؟”، قالت: “ألف بات يومياً (حوالي ثلاثين دولار)”، قلت لها: “راتب معقول…” قالت: “نعم، ولكنني لا أعمل سوى يومين في الأسبوع، بطريقة التعاقد الحر، يعني باليومية، بلا حقوق ولا نهاية خدمة ولا تقاعد…”، قالت لها: “وهل يكفيك هذا؟” قالت: “بفضل الله، ولكن لديّ عمل آخر رسمي بدوام كامل”، سألتها عنه، قالت: “أدرّس اللغة العربية في مدرسة إسلامية”، “وكم تتقاضين شهرياً؟”، قالت:”أربعة آلاف بات (مائة وعشرون دولاراً)”، قلت لها: “هذا قليلٌ جداً…”، قالت: “لا… هذا كثيرٌ جداً، لقد غاب عنك (الثواب) الذي أحصل عليه عند الله سبحانه وتعالى، وأنا أدرّس لغة القرآن الكريم المقدّسة…”. كأنما صعقتني كهرباء، وجدت نفسي مفحماً أتعلّم على يد (فضيلة) التايلاندية ما أنستني إياه الحياة الاستهلاكية التي جعلت من العلم وسيلة تكسّب كان يأباها الأجداد والأفذاذ، وتذكّرت معلّمي الدروس الخصوصية في الإمارات الذين يتكلّمون عن نصف مليون من الدراهم وأكثر في مواسم الامتحانات. طفرت دمعتان من عيني وهي تشير إلى أنها تفكر جدياً في التخلي عن الأربعة آلاف بات من أجمل ثواب أكبر…

ما الذي جاء بك يا بن النقيب إلى هذه البلاد؟!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s