لكلّ وجه كرامة…

أولاً لنتفق أن لا بد من نسيان غرض من الأغراض، وفقدان آخر، وتحطّم ثالث في أي سفر من الأسفار، ولكن حذار من فقدان ما هو في صلب مقوّمات السفر وعماد أعمدتها: الأوراق الثبوتية، وبطاقات الإعتماد، والنقد السائل، فهذه ينبغي أن يكون موقعها قريباً من القلب في الجيوب الداخلية، أو في الخزائن التي توفرها حالياً جميع الفنادق، إما داخل الغرف، وإما في الاستقبال، وبدون أي رسمٍ أضافي إلاّ ما ندر، وهو زهيد ومقدورٌ عليه، وكما قلنا فإن النادر لا حكم له.

أعرف صديقاً كان يخبئ نقوده في الجوارب، وحين يجلس في مطعم أو مقهى لا يستطيع مقاومة تلسمها والاطمئنان إلى تواجدها، فيشمّر البنطلون عن ساقيه، فتبدو أوراق النقد التي كانت مخفية عن العيون، وتتبدد الحكمة التي تفتق عنها ذهنه، ثم لا يستطيع مقاومة الاستئناس بدفئها بين أصابعه، فيستلها رزمة رزمة، يمتّع النظر بعدّها ثم يعدّها، فيما الناس يتعجبون من هذا الذكاء الذي أخفى كنز علي باب ثم دلّ عليه جميع الناس. قلت له وقد فاض الكيل بي: “با يجي يوم با يحشّ اللصوص ساقيك، وعلى نفسها جنت براقش”. كان لا يثق في خزائن الودائع في الفنادق، ولله في خلقه شؤون، ولا يزال المولى ساترها معه حتى اليوم، ولكنني أخشى أن ألتقيه ذات يوم بعكّازين.

وهناك (المغلّسين) على حد التعبير الظريف الذي اشتهر في مدينة (عدن) في خمسينيات القرن الماضي، عن رجل الأعمال المعروف الحاج (محمد علي مقطري) رحمة الله عليه، فقد كان من أبرز رجال الخير والوطنية، وله حكايات تُروى قد أعرّج عليها في يوم من الأيام، وقد سأله أحد الآباء – أو قل استشاره – في أمرِ شابٍ تقدم لخطبة ابنته، فقال له: “والله ابن ناس طيّبين، بس يُغلّس كما سمعت”. و(التغليس) مشتق من الغلس الذي يعقب انطفاء النهار ودخول الليل، وهو في لهجة أهل عدن العودة إلى البيت بعد منتصف الليل، أو في الهزيع الأخير منه، والكناية واضحة، فالمغلسون هم أهل القصف واللهو والليالي الحمراء، وقد دار الرجل المسكين في حي (الشيخ عثمان) يسأل العُراف عن مقصد الحاج (محمد علي المقطري)، هل أجاز الشاب أم أسقطه في الإمتحان الذي يكرم المرء فيه أو يُهان؟ وقد شرح له الأمر أحد العارفين قائلاً له إن الحاج لا يتكلم إلا رمزا، والمعنى أكثر من واضح.

ومن عادة (المغلّسين) نسيان ما أقدموا عليه في الساعة الخامسة والعشرين، وقد حشا أحد الأصدقاء نقوده وجوازه في أحشاء الفرش السميك على سريره، وعندما صحا في العصر لم يعثر لها على أثر لأنه بحث عنها في الدولاب وفي الحقيبة والأدراج، وبمعجزة توصل إلى حل اللغز بعد يوم كامل من اللطم. أما مغلس آخر فقد تفتقت عبقريته الإخفائية عن ربط النقود في كيس من النايلون ربطاً محكماً، ثم ربط الكيس إلى سحاب الشفاط (السيفون) في الحمام، قائلاً لنفسه إن الجن الأزرق لن يندل على موضعها، وبعد أن صحا وجد نفسه واحداً من فصيلة الجن الأزرق إياها، “ويا عين لا تذرفي الدمعة، وابكي أنا بابكي معاك”.

حذاري من مقاربة أو مقارفة غير المألوف، فما دمت في غرفتك وبابك مغلقاً عليك بالرتاج فأنت في أمان، ولمعلوميتكم… في بلاد الثاي (تايلاند) فإن الأمانة والأمان هما تاجا هذه المملكة الصبية، أحكمها المدنيون أم حكمها العسكر.

الصبا والجمال ملك يديك
أيّ  تاجٍ أعزّ من iiتاجيك

ومع ذلك فالحذر واجب، فالحذر كما قول العرب يؤتى من مأمنه، وليس كالخط المستقيم طريقاً قصيراً بين نقطتين: إصرف في محل معتمد، وخذ من أي مطار سيارة أجرة معتمدة، وادفع ما عليك لتأخذ ما لك، لأنك لن تكون أشطر الناس، ولكن يمكنك أن تكون واحداً من خيار الناس. سافرت أنا وزميليّ (سالم) و (علي) ولدا (صالح محمد الظيآني) وحجزنا مواصلات وأمسيات ثقافية، وكانت البورمية (ناو) صاحبة مكتب سياحي تدفع كل شيء بالثقة، وحين مررنا عليها قالت وابتسامتها تفيض كشلالات الهيملايا: هل ترغبون في الدفع الآن…؟ الله يا (ناو) لكم نتعلم منك الثقة في الآخرين… رعاك الله وعلى الرحب والسعة فلكل واجه كرامة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s