شكراً (للحديقة الملكية)..

أنشدتّ في عزّ الشتاء للـ (حديقة الملكية) الرائعة في (بتايا) من أرض (تايلاند) ما قاله (البحتري) لربيع (بغداد):

أتاك الرّبيع الطّلق يختال ضاحكاً
من  الحُسن  حتى كاد أن iiيتكلّما

وأقول (ملكيّة) لا لأن تسميتها كذلك، وإنما لأن عليها من جلال الملوكية ما يجعله أهلاً لذلك، وأقول عزّ الشتاء وأنا أتصبب عرقاً، لأن روزنامة الأيام والليالي تقول أنني في (يناير) حيث أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية تلتحف نديف الثلج بياضاً، ورغم ذلك فإن الشتاء يعمل بقوانينه لا بقوانينا وما نقوله ونحسّه، فدورة الفصول تمضي تفعل مفاعيلها، والدّليل لدي اللون الذهبي الأصفر يؤشر على ذلك، ويساق الأوراق “دنانيراً تفرّ من البنان”.

لم تفهم عني الحديقة رطانتي العربية، فقد أصبحنا الأعاجم في عالم اليوم، وما لم نعترف بذلك فسنظل كأهل الكهف ننزل بورِقنا إلى مدن العالم فتولّي منا فرارا.

قلت… لعلّ (البحتري) قد بُعد به الزمن، فلعلّ (الشابي أبا القاسم) التونسي أقرب إلى هذا الجمال العصري الناعم الذي رَنَت إلي “وجوهه وعيونه” فأنشدت في صباحية الحديقة العروس:

عّذبة أنت، كالطفولة، كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد

كالسماء الضّحوك كالليلة القمراء، كالورد، كابتسام الوليد

فنظرَت إليّ كنظرة حصان (عنترة) “بعبرة وتحمحم”، قلت لها: “ما علينا من هذا العناء، فقبل قرون عثر على شبيهك (أبي الطيب) في شعبِ (بوان) بـ(إيران)، وقد أدرك أن غربتنا بدأت وستطول:

مغاني الشعب طيبٌ في المغاني
بمنزلة    الربيع    من   iiالزمانِ
ولكنّ    الفتى    العربيّ   iiفيها
غريب   الوجه   واليد   واللسان

قال لي الأستاذ (سالم صالح محمد): “مالك يا ابن النقيب… أين ذهبت بك الشؤون والشجون؟!”، فأجبته:

فقال   أتبكي   كل  قبر  iiرأيته؟
لقبرٍ  ثوى  بين  اللوى iiفالدّكادكِ
فقلت له إن الشّجى يبعث الشجى
فدعني  فهذا  كلّه  قبر  ii(مالك)

نعم بكيت (الزوراء) في (بغداد) وقد زرتها في منتصف السبعينات، كتلة من الحياة، وآية من آيات الجمال، ثم أزرى بها الدّهر، وأكل الناس حيواناتها وثمارها، ثم اجتثوا أشجارها، وتذكرت (الجليّ علي بك)، ذلك الشلال في شمال (العراق)، زرته مع (ردمان الشيباني) وعائلتينا، وقد كان (ردمان الذي لم أعرفه عن كثب إلا في تلك الرحلة غاية في الكرم ولطافة المعشر، وكنا نضع البطيخة في مجرى الشلاّل فما هي إلا دقائق حتى تُصبح قطعة من الثلج، فمياه الشلال تتدفق من ذوبان الثلوج في قمم الجبال… وبكيت (بُردى) في (دمشق)، فقد كان خيراً وعذباً فراتاً يسعى على الأرض، فغاض وذبل وتغطّى بالإسفلت حتى لا يرى الناس بؤسه، وبكيت (الحسيني) في (لحج)، وكان مقصد الناس من (عدن) والمناطق المحيطة، يستذكرون فيه مآثر وأشعار وأغاني الأمير الشاعر (أحمد فضل القمندان)، واليوم أصبح خارج التاريخ. قال لي: “هوّن عليك… أجمل كلماتنا لم نقلها بعد، وألطف أشعارنا لم ننشدها بعد، وأحلى أيامنا لم نعشها بعد، وأرض الجنتين ستعود بإذن الله حتى يمشي الناس ثلاثة أيام لا تلغهم الشمس، ولا يعوزهم الأكل والشرب…” قلت: “حتىّ…!”

شكراً للـ (الحديقة الملكية) في (بتايا)، فقد غَسَلَتْ عينيّ بالدّموع، وأيّ غسولٍ غير ذاك أريد؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s