ساعة لربك… و …

حتى الإجازة تحتاج إلى إجازة، ذلك أن القلوب كما يقول الأسلاف إذا كلّت عَمِيَت.

وكما أسلفت فنحن ثلاثة في رحلتنا، وكان رائدنا في هذا التجمّع الذي رأيناه معقولاً المثل اليمني القائل: “عشرة شلّوا جمل والجمل ما شلّهم”، وطبعاً لم يكن معنا جمل، وإنما قل وعلي حضرمي من ذوي القرون المرجبة، وطبعاً مقدور على حمله من ثلاثة، وهذا طبعاً لضرب المثل، وإلاّ فلا جملٌ ولا وعل ولا حتى دجاجة ولا يحزنون، وأصغرنا (علي صالح) لا يعترف بالراحة ويظل يخب آناء الليل وأطراف النهار، معنا وبدوننا، وربّما بدون نفسه أحياناً. أمّا المتوسط في العمر وهو الأخ العزيز (سالم صالح محمد) فقد مرحل العملية على طريقة السياسيين، فبدأ بالشكوى: “آه يا بطني، آه يا رأسي، إدع لي يا ابن النقيب”، ولأنني على نياتي… ويا غافل لك الله، فقد أخذت أدعو له فعلاً من كل قلبي، وأقول في نفسي “من رأى مصائب الناس هانت عليه مصيبته”، وقد أخذت أداريه، “كل هذا ولا تأكل هذا… لا تجهد نفسك كثيراً، إتكئ على كتفي – الذي يكاد ينخلع- وانتبه إلى موقع قدميك”، هذا وما شفت من أصناف الدلال الذي لا بد أن يظهره رفيق مثلي. وقد كنت ألاحظ أنه لا يبالي بأيٍّ من نصائحي، كأنما بينه وبين الصحة عهد مكتوب، وحين ظهرت نتائج الفحص الشامل ووجد نفسه (صاغ سليم) كما يقولون أطلق العنان لجميع قواه الحيوية، ولولا (جعفر صالح محمد)، بارك الله فيه وأطال في عمره، والذي سبق أن حدثتكم عنه في زاوية سابقة بعنوان (التقرير) لما اهتزت له شعره، وقد أخذ يضحك وهو يقول لي: “ألم أقل لك؟”، قلت: “لم تقل شيئاً: آه يا بطني، آه يا رأسي، ماذا قلت؟”.

أما عن نفسي ولا أريد أن أطلعكم على أسراري الصحية، فإنني دفعت ثمن شِعاري الأثير، الذي أخذته عن أستاذي (سالم زين محمد) القامة الفارعة في عالم الوطنية اليمنية، والذي كتب ميثاق الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن في ستينات القرن الماضي، وكان كلما سألته عن صحته بعد أن تشرد في الآفاق يجيبني بقوله: “في صحة اللي ما تهمه صحته” ذلك أن الأدوية المكرسة أساساً للسكري ومنظومته والتي اسقطتها تباعاً خلال عشر سنوات قد أعيدت إليّ بالوفاء والتمام، وكما قالي لي (زوربا) حين لبس ثوب الحكمة فإن “ما فعلته الشاة بالقرضة دفعت ثمنه من جلدها”. وكما تعلمون إن (القرض) نبات شوكي، وحين تحتك به الشاة لتقضم لها كم قضمة (حلاية) فإنها تظل بعد ذلك مثل الأجرب تحتك بالجدران لعلّ تلك الأشواك التي تخزّها تخرج من جلدها.

المهم قالت لـ (سالم صالح): “وتمكرون ويمكر الله والله خيرُ الماكرين” وضحكنا جميعاً، هو للصحة، وأنا لما تيسّر من المرض الذي أعتبره (بدر شاكر السيّاب) بعض الهدايا الآلهية التي تستحق الحمد والشكر:

لك  الحمد إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم

قل يا سيدي: خففنا من (برمجة) (علي صالح) فوقعنا في همّة (سالم صالح) لما بعد التقرير، يعني خرجت من حفرة ووقت في بير، قلت للأخوين: “لو كان بصحبتكما طفل أتسيران على خطوه أم تسيّرانه على خطوكما؟” قالا بصوت واحد: “على خطوه”، “ولو كان معكما عجوز، أتسيران على قدر سنه أم بقدر سنكما؟” قالا بصوت واحد: “على قدر سنه”، قلت: “طيب، وحين يكون معكما من هو بحاجة إلى الراحة، ألا تستريحان”. أخيراً أدركا المغزى، قلت لهما: “صحيح إن عشرة شلّوا جمل والجمل ما شلّهم، لكن هذا للضرورات القصوى وليس لعبة كل يوم، وساعة لربك وساعة لقلبك. وهكذا استمتعت بيوم إجازة لم يطرق عليّ فيه طارق باب غرفتي… إلى الغد.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s